لم يكن أحد ينتظر من صاحب "الطوفان في بلد البعث" أن يرحل في هذه اللحظات التاريخية التي يعيشها عالمنا العربي، والتي وقّع وأصدقاؤه من المثقفين السوريين بياناً شجاعاً، على عادتهم، احتفاءً بها وتأييداً لصانعيها وتطلّعاً لتوسّعها وانتشارها.
لم يكن أحد يتوقّع أن يطوي السينمائي المبدع كاميراه وأن يأخذ معه مشاريع صوره وأضوائه وكلماته وينسحب.
لكن عمر أميرالاي مضى. ترجّل تاركاً تفاصيل حياته لأهله ورفاقه وتلامذته ليعيدوا نسجها، وهو الذي عاشها غنية تضجّ بالإبداع والجمال والأناقة وخفة الروح ومرّ السخرية. ولعل تعريفه بنفسه أبلغ من كل كتابة ممكنة عنه. يقول: "أصلي عثماني من خليط قومي شركسي كردي تركي وعربي. وُلدت في الشام عام 1944 على مرمى حجر من مقام شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي، معطّراً بروحانيته مباركاً باسمه وكنيته. وقد عاهدت نفسي مذ صرت مخرجاً أن أنذر له ذبيحتين كلما رزقت فيلماً. واليوم في رصيدي نحو 20 فيلماً حققتها على مدى 35 عاماً في ممارستي مهنة السينما... طفولتي أمضيتها في حي الشعلان على بعد خطوات من المقرّ التاريخي لحزب البعث الذي صار دكاناً لبيع الألبسة الجاهزة. عشت في بيت عربي متواضع كان أضخم ما فيه نوافذه العريضة المطلة على الشارع العام الصاخب بالحركة والناس. ومن خلال تلك النوافذ التي كان أخي الكبير يصلبني وراءها ليشغلني عن المطالبة بأمي الغائبة في الوظيفة، تربيت على الفضول وعلى حب الملاحظة وعلى تشريح الناس والأشياء ورصد تفاصيل الحياة اليومية للحارة والجيران، وعلى وجه الخصوص صاحب صيدلية الانقلاب الذي صرعه استقرار البلاد بعد قيام الحركة التصحيحية... طفولة مسترخية بامتياز أتيح لها الانشغال بالآخرين ومراقبتهم والتفرغ لقصصهم ما يدحض القول المأثور السخيف: من راقب الناس مات هماً... أما والدي رجل الأمن النزيه الذي قضى نحبه شاباً على طريق دوما عام 1950 وهو يطارد المهرّب الأعور الشهير لورانس الشعلان، فقد أبى - رحمه الله - إلا أن يورثني صفارة الخدمة خاصته وشيئاً آخر أعتز به اليوم أكثر، ألا وهو احتقار السلطة وأهلها من الساسة والعسكر من محترفي مهنة الأمر والنهي والتصرف بأحوال البلاد والعباد"...
وداعاً عمر، وأنت تعرف لوعة الوداع، وقد سبق لك وودّعت الكثيرين من أحبابك: سعد الله ونّوس وسمير قصير وآخرين، وأحرّ التعازي الى عائلتك وصحبك في دمشق وبيروت وباريس، المتطلّعين جميعاً الى لقاء في الشام حول أفلامك وابتسامتك وعبق الحرية، الذي لطالما انتظرت...
|