سوف يكون هناك دائماً أشخاص يحترفون التشاؤم، وفي نهاية الأمر سيكونون جميعهم على حق جزئياً. فهم يقولون مثلاً إنه لا جديد تحت الشمس، ويضيفون أن الثورات لا تتفادى أبداً الإخفاقات ونادراً ما تتجنّب الكوارث. من الواضح الآن أنه إذا أدّت الاضطرابات في مصر إلى إغلاق قناة السويس، فسوف نكون أمام زلزال عالمي. يبقى أن رعب 1793 لم يمحُ مجد 1789 حتى ولو حذف بيتهوفن لاحقاً الإهداء إلى بونابرت من إحدى سمفونيّاته عندما نصّب نابوليون نفسه أمبراطوراً. وإذا اكتفينا بأن نتوقّع اليوم أن ثورة الياسمين أو ثورة النارجيلة ستقود إلى الأسوأ، فنحن نتغاضى عن الجوهر. لأن ما يُدهِش في هذه الثورة العربية، في ربيع الشعوب الشرق الأوسطية، وهذه الانتفاضة الجماهيرية، هو ما يجعلها مميّزة للغاية: إنه بعدها التاريخي الذي لا يرد في التاريخ ولا في ذاكرة المؤرّخين. إذا اكتفينا الآن بالحديث عن تونس ومصر، فإن الابتكارات وليس عوامل التكرار هي التي تبهر عيوننا. ليس أمراً مألوفاً أن يرفض الجيش إطلاق النار على الناس، ولا سيما في مصر حيث إن الجيش المصري هو من أقوى الجيوش في أفريقيا. ثم هناك هؤلاء الشباب الأبيّون الذين يحتشدون بأعداد كبيرة جداً، والذين لا يمكن مقاومة مسيرتهم. لم يسبق أن تحرّك هذا العدد الضخم من الشبّان (في العالم العربي) وتسيّسوا في رفض للسلطة لا ينطلق من كره للغرب أو لإسرائيل. لقد حوّلوا في القاهرة أغنية مصرية تنتهي بعبارة امتنان لوجود الإسلام إلى الامتنان لوجود تونس. ولا يقود هؤلاء الشبّان "رجل خارق" مثل عبد الناصر أو إمام مثل الخميني. ثم هناك وسيلة التواصل أي الإنترنت. يجيد هؤلاء الشبّان استخدامها أكثر من الأكبر سناً وينجحون أكثر في التواصل في ما بينهم والاطّلاع وتحويل أمزجتهم الفردية تعليمات جماعية.
والعنصر الآخر هو أن هذه الشعوب الغاضبة يحكمها طغاة لا يتزحزحون من أماكنهم ولا يتمتّعون بالشرعية التي تمنحها الملَكية أو الكنيسة للملوك، بل يستمدّون شرعيتهم فقط من انتخابات مزوَّرة أو مطعون فيها. أخيراً، يعيشون في بلدان تزداد فقراً فيما يصبح الثراء فيها أكثر تفاخراً. لا تكفّ وسائل الإعلام المرئية عن عرض صور الترف الذي يعيش فيه الأثرياء الجدد. ليست لكل هذه المعطيات أي علاقة بالعروبة أو التشدّد الإسلامي. لذلك يجب دراستها من منظار احتمال انتقال عدواها إلى أي بلد كان.
لنبقَ في مصر حيث الأحداث هي الأكثر تفجّراً: يتكدّس 80 مليون نسمة في أرض ضيّقة إلى حد ما لأنها ليست صالحة للسكن سوى في دلتا نهر النيل وعلى ضفافه. تؤمّن السياحة معيشة لائقة نسبياً لخمسة ملايين شخص على الأقل في البلاد. لا يحكم البلاد مسخ. ليس هناك، كما في تونس، أسرة حاكمة من البلطجية وقطّاع الطرق. وليس الموظّفون الحكوميون أكثر فساداً منهم في بلدان أخرى كثيرة، لكنهم فاسدون في الواقع، وهذا ما لم يعد الشبّان يتحمّلونه لأنهم شباب ولأنهم فقراء. لكن في ما يتعلّق بمبارك، يطلب منّي صديقي جان لاكوتور ألا أنسى أنه قام بتطبيق الاتّفاقات التي وقّعها أنور السادات مع إسرائيل وأدّى دوراً أساسياً في البحث عن روابط بين قوى السلام الفلسطينية والإسرائيلية. لكن على غرار كثر سواه، تمسّك طويلاً بالسلطة، واستفتى الشعب على شخصه في انتخابات كانت تُزوَّر بوقاحة شديدة، ورغب في توريث الرئاسة لابنه.
على الرغم من أن الأوضاع تختلف من مكان إلى آخر، إلا أنه بإمكان حركات شعبية أن تزعزع الأنظمة القائمة في بلدان أخرى مثل اليمن أو الأردن. وفي كل مرّة، في تونس كما في مصر، لا يمكن تفادي المشكلة - الهاجس المتمثِّلة بالتهديد الإسلامي. استُقبِل القائد، راشد الغنوشي العائد من منفاه اللندني، استقبال المنتصرين في تونس، ولم تحقّق التظاهرات المضادّة التي نظّمتها النساء النجاح المرجو. صحيح أن هذا النصر اقتصر على بضعة آلاف التونسيين. لكن حزبه (النهضة) منظَّم جيداً لأن لديه ذكريات قديمة وأيديولوجيا دينية موحِّدة. بيد أن تونس تغيّرت. فلا شيء يشير، في اللحظة التي أكتب فيها، إلى أن المرأة التونسية ستقبل بأن تُجرَّد من المساواة مع الرجل. ولا شيء يشير أيضاً إلى أن الإسلاميين الجدد لن يجدوا صيَغاً لجعل هذه المساواة متلائمة مع الشريعة القرآنية. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن راشد الغنوشي أعلن لأول مرّة أنه لا يُعارض المساواة بين الجنسَين ولا حرّية العبادة. ويقول إنه لا يثق إلاّ بالديموقراطية لأنها هي التي سمحت له بالعودة. هذا فضلاً عن السباق بين الأحزاب وتنافس الأفكار، والقوّة المتجدِّدة للمركزية النقابية وضمانة الجيش، مما يجعلني أراهن، وربما كنت أجازف برهاني هذا، على أنه لن تكون هناك عودة كبيرة ولا خطرة لتشدّد إسلامي على الطريقة القديمة في تونس.
لا ينطبق الأمر نفسه على مصر، وهذا ما يخيف الجميع. والسبب بكل بساطة هو أن "الاخوان المسلمين" يحتّلون مكانة بارزة هناك. منذ وصول عبد الناصر إلى السلطة، طاردهم الجيش وأنصار العروبة لكنّهم لم ينجحوا قط في سحقهم. والسبب هو أنهم يمثّلون تقليداً محترَماً تؤازره شخصيات قوية، وأن النخب المصرية تشعر بالذنب لأنها سمحت لحكومتها بأن تعقد سلاماً مع إسرائيل.
يبقى أنه يجب تصحيح هذا الماضي باستمرار في ضوء المعطيات التي أثرتها أعلاه. لم يعد الشباب المصري اليوم منفتحاً على قبول دين إسلامي يتّخذ شكل أيديولوجيا سلطوية وظلامية. يلفت طارق رمضان انتباهنا، وهو الأدرى بذلك، إلى أن "الاخوان المسلمين" يُظهرون الآن أنهم قادرون على التكيّف إلى درجة أنهم يوهمون الناس بأنّهم تقدّميون. هذا البلد الشديد الرمزية مهم للغاية لمجموع الشرق الأدنى. ومن هنا الانفعال والإحراج اللذان يشعر بهما الأميركيون. وسوف أتطرّق إلى هذه النقطة لاحقاً.
تزداد المشكلة تعقيداً مع توقّع تحقيق "حزب الله" نصراً كاسحاً في لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز النفوذ الإيراني في الشرق الأدنى وعلى حدود إسرائيل. هذا أكثر ما كان يخشاه المصريون كما الإسرائيليون. ويبدو عدد كبير من الديبلوماسيين العرب معجباً بشخصية أمين عام "حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله. أحد أكبر إخفاقات الاستراتيجيا الإسرائيلية في لبنان، والذي يثير الشكوك حول مدى كفاءة خيرة الجنرالات الإسرائيليين، هو أنها لم تعرف أن تتوقّع ولا أن تتفادى تكوّن مثل هذه القوّة الإسلامية. ربما لنا الحق في التفكير في أن التشدّد الإسلامي يلقى مقاومات جديدة في أوساط الرأي العام في كل مكان، وحتى في ما نسمّيه "الشارع العربي"، إلا أنه لا يمكن التشكيك في راديكالية المسؤولين الإيرانيين ورغبتهم في تأكيد وجودهم بفضل ثقل التأثير الذي يمارسونه على لبنان وسوريا وجزء من "حماس".
لنعد إلى الولايات المتحدة. يمكن أحياناً اختصار تاريخ علاقاتها مع البلدان العربية بالعلاقات التي بنتها مع إسرائيل ومصر اللتين تمنحهما سنوياً المبلغ نفسه، مليار ونصف مليار دولار، في شكل مساعدات عسكرية أو سواها من المساعدات. ويمكننا أن نكوِّن فكرة عن الأهمّية الاستراتيجية لمصر عبر التأكيد بأنه ما كانت الولايات المتحدة لتتمكّن من خوض حروبها في العراق لولا إمكانية نقل النفط عبر قناة السويس. لا شك في أن الجيش المصري هو أقوى الجيوش العربية، بيد أن المصريين الذين لا يملكون في الولايات المتحدة لوبيا شبيهاً بلوبي اليهود الأميركيين، هم أكثر اعتماداً بكثير على واشنطن. يمكن القول بأن القادة العسكريين المصريين هم حلفاء غير مشروطين إلى حد ما للولايات المتحدة، في حين أن المسؤولين الحاليين في الحكومة الديموقراطية الإسرائيلية يشعرون، لسوء حظ الجميع، بأنهم قادرون على تحدّي أوباما. سبق أن كتبت في هذه الصفحة أن بنيامين نتنياهو يستطيع أن يعتدّ بنجاحه في تقويض المبادرات العديدة التي أطلقها الرئيس الأميركي من أجل إحلال السلام. واليوم، يتخوّف الإسرائيليون كثيراً من حدوث تبدّل في التوجّه لدى من سيخلفون حسني مبارك الذي يدعوه المصريون الآن إلى الرحيل.
لا يستطيع الأميركيون أن يسمحوا لأنفسهم بقبول انتشار عدم الاستقرار في منطقة ينوون الاحتفاظ بالسيطرة عليها. هذا صحيح جداً إلى درجة أن اختصاصياً بارد الطبع في المسائل الجيوسياسية سأل في صحيفة "نيويورك تايمز" أخيراً إذا كانت الديموقراطية التي تشكّل جزءاً من المبادئ التأسيسية للولايات المتحدة والغرب، مرغوباً فيها بالضرورة في المنطقة. فقد كتب "كل الأمور السلمية التي فعلناها في الشرق الأدنى قمنا بها مع طغاة، ولا سيما أنور السادات والملك الأردني عبدالله".
"نوفيل أوبسرفاتور" ترجمة نسرين ناضر
( مؤسس مجلة "نوفيل أوبسرفاتور" وكاتب افتتاحياتها.)
|