هل نبالغ لو قررنا أن السلطوية المصرية التي دشنتها ثورة يوليو 1952، وتجذرت في ثلاثة عصور هي العصر الناصري والعصر الساداتي والعصر المباركي، قد وصلت إلى منتهاها وسقطت إلى الأبد؟
تماما مثلما انهار الاتحاد السوفياتي وأدى سقوطه إلى سقوط الشمولية كنظام سياسي ألغى المجتمع المدني وجعل صوت الحزب الشيوعي الأوحد لا يعلو عليه أي صوت، فإنه يمكن القول أن الهبة الشبابية المصرية في 25 يناير 2011 والتي فاجأت الشعب المصري والعربي بل والعالم، هي رمز دال على سقوط السلطوية كنظام سياسي في مصر. والسلطوية ليست صفة أخلاقية نضفيها على بعض النظم السياسية لنعني بها القمع أو الاستبداد، بل هي في – تعريف علم السياسة – نظام سياسي محدد الملامح واضح القسمات.
ولو راجعنا تصنيف النظم السياسية في العالم فإننا نجدها – وفق تصنيف عالم الاجتماع السياسي الأميركي لويس كوزر – تنقسم إلى ثلاثة رئيسة: الشمولية والسلطوية والليبرالية. النظام الشمولي يحتكر السلطة احتكاراً مطلقاً ويمحو مؤسسات المجتمع المدني، ولا يترك لأي جماعة أو تنظيم مجالاً لاتخاذ أي مبادرة. وكان المجتمع السوفياتي في إمبراطورية الاتحاد السوفياتي السابق، هو النموذج البارز على النظام الشمولي.
أما النظام السلطوي فهو ذلك الذي يحتكر السياسة إلى حد كبير، وإن كان يترك مساحات محدودة في المجال العام لبعض المبادرات الخاصة. وقد يقبل – كما حدث في مصر – تأسيس تعددية حزبية مقيدة في ضوء حزب غالبية – كالحزب الوطني الديموقراطي يحتكر العمل بالسياسة، ويعمد إلى تهميش كل القوى والأحزاب السياسية الأخرى.
والنظام المصري في عهوده المختلفة – ونعني العهد الناصري والساداتي والمباركي - كان ولا يزال نظاماً سلطوياً بامتياز، وإن كانت درجة التحكم في أمور المجتمع تفاوتت بشكل ملحوظ عبر الزمن. كان التحكم مطلقاً في العصر الناصري، وتحول إلى تحكم نسبي في العصر الساداتي الذي شهد تعددية سياسية مقيدة، وتغير في العصر المباركي إلى تحكم مرن إلى حد ما، لأن الحريات السياسية توسعت دوائرها مما سمح لمنظمات المجتمع المدني أن تتكاثر وتنشط، كما أن حريات التعبير زادت إلى حد غير مسبوق، مما أتاح للمعارضين أن يهاجموا النظام السياسي السائد بطريقة مباشرة لم تستثنِ لا توجهات النظام ولا رموزه البارزة، وفي مقدمها رئيس الجمهورية.
ويبقى النظام السياسي الليبرالي حيث لا تتدخل الحكومة في الاقتصاد ويسود مذهب حرية السوق، وكذلك تسود التعددية السياسية والحزبية، وقد يكون النظام الأميركي نموذجاً بارزاً لهذا النظام الليبرالي. نعود – بعد هذا الاستطراد الضروري – إلى حكمنا القاطع الذي صغناه في صدر المقال، بأن الهبة الشبابية في 25 يناير أدت – ويا للمفاجأة – إلى إنهاء السلطوية السياسية المصرية! ولو تأملنا تطورات النظام السياسي المصري منذ ثورة يوليو 1952 حتى الآن، لاكتشفنا أنه سادته ثلاث أساطير سياسية رئيسية.
وتتمثل الأسطورة الأولى في العصر الناصري، وهي أنه يمكن تطبيق الاشتراكية بغير اشتراكيين! وهو الذي أدى إلى فشل ذريع حقاً بعد أن وقعت التجربة في براثن البيروقراطية المصرية، التي قضت تماماً على التوجهات الاشتراكية.
أما الأسطورة الثانية التي سادت في العصر الساداتي فكانت أنه يمكن تطبيق الرأسمالية – في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي – بغير رأسماليين حقيقيين! وتفسير ذلك أن السماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية والمتاجرين بالعملة، هم الذين سيطروا على المجال الاقتصادي بدون وجود طبقة رأسمالية وطنية حقيقية تطبق بدقة المعايير الرأسمالية في التنظيم الاقتصادي، وترتاد الميادين الجديدة في مجالات الصناعة والتكنولوجيا والزراعة. ونصل من بعد إلى الأسطورة الثالثة التي هيمنت على المناخ السياسي في العصر المباركي والتي مبناها أنه يمكن تطبيق الديموقراطية بغير ديموقراطيين! وتفصيل ذلك أن الممارسة الديموقراطية الشكلية التي سادت البلاد في ظل الهيمنة الكاملة للحزب الوطني الديموقراطي، والذي من خلال انتخابات كان يطعن فيها دائماً بالتزوير أصبح حزب الغالبية، هذه الممارسة السلطوية أدت إلى تجفيف منابع الأحزاب والحركات السياسية المعارضة، مما جعل توافر أجيال من الشباب الذين تمرسوا بقيم الديموقراطية وأهم من ذلك يمارسونها في ظل مشاركة سياسية فعالة، مسألة مستحيلة.
انتهت السلطوية إذن بضربة واحدة وجهتها جموع شباب 25 يناير، ممن يتقنون التعامل مع أدوات الاتصال الحديثة (المدونات والفيس بوك والتويتر). واضطرت الدولة تحت وقع التظاهرات الحاشدة، وفي ضوء إصرار الجموع الشبابية إلى تقديم تنازلات متعددة يوماً بعد يوم، سواء في مجال بناء السلطة الأساسي ذاته، حيث عين نائب لرئيس الجمهورية وهو مطلب شعبي قديم، وأقيلت وزارة أحمد نظيف الفاشلة. واختير لمنصب نائب الرئيس ومنصب رئيس الوزراء كل من اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق، وهما شخصيتان تحظيان بالاحترام الشعبي.
وتحت تأثير الموجات الشبابية الغاضبة والمتدفقة، أعلن الرئيس أنه لن يرشح نفسه لفترة تالية لا هو ولا السيد جمال مبارك، وبعد ذلك أعلن عن تغيير جوهري في بنية الحزب الوطني الديموقراطي بإقصاء أعضاء مكتبه السياسي، وإزاحة سكرتيره العام، واختيار سكرتير عام جديد هو الدكتور حسام بدراوي، وهو من الرموز الإصلاحية في الحزب. نحن نكتب هذه المقالة ومازالت الأحداث تتوالى، لأن الحدث الثوري الكبير الذي صاغته جموع شباب 25 يناير مازال يتفاعل وينتج آثاره. نحن – إن صح التعبير – مازلنا في مجال المقدمة والفصل الأول، والحدث اتسم بسرعة الإيقاع وبشمول حركة الاحتجاج وانتشارها في كل المحافظات المصرية تقريباً، وهذه مسألة تحدث لأول مرة، لأن القاهرة كانت غالباً هي فقط موطن الاحتجاجات السياسية وقد تشاركها الإسكندرية أحياناً.
هبطت الثورة إذن من الفضاء المعلوماتي – وغزت بدون أي مقدمات – المجتمع الواقعي. غير أنه سرعان ما تبين إنها "ثورة" – إن تجاوزنا قليلاً في التعبير – بدون قيادة. وأخطر من ذلك أنها ثورة بلا برنامج محدد. هي تعرف ما لا تريد بدقة وهي السلطوية بكل تجلياتها، والفساد والقهر وإهدار الكرامة والإنسانية، ولكنها لم تحدد ما تريد بدقة ماعدا مطلب الديموقراطية بشكل عام، وتحقيق العدالة الاجتماعية، هكذا كشعارات عامة. ولسنا في حاجة إلى تفصيل الأسباب التي أدت إلى اختمار هذه الثورة الشبابية.
وقد سبق لعديد من الكتاب والباحثين والسياسيين أن عبروا عن اعتراضهم على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في البلاد. تعددية سياسية مقيدة، وتهميش للأحزاب السياسية المعارضة، وهيمنة مطلقة غير مبررة للحزب الوطني الديموقراطي. ووضع العوائق العديدة أمام المشاركة السياسية، ومنع الشباب في المؤسسات التعليمية (المدارس والجامعات) من العمل بالسياسة.
وقد إنصرف الشباب عن الاهتمام بالسياسة، نظراً الى أن الأحزاب السياسية القائمة بضعفها وجمود برامجها وشيخوخة قياداتها وتناحرها لم تكن جاذبة لهم، فتحولوا من الدائرة الخانقة للمجتمع الواقعي، إلى الفضاء الرحب للفضاء المعلوماتي. وفي هذا الفضاء مارس الشباب في مدوناتهم وعبر الفايسبوك والتويتر أقصى درجة من درجات حرية التعبير، ووجهوا أقسى الانتقادات للنظام السياسي الراهن.
ولو حاولنا أن نشخص الأوضاع التي أدت إلى الثورة الشبابية، لقلنا أن أبرزها شيوع الفساد الكبير في المجتمع، والذي أدى إلى استئثار القلة بغالبية ثمار التنمية نتيجة تواطؤ الدولة مع حلفائها من رجال الأعمال، وكذلك ظهور استقطاب طبقي حاد بين من يملكون كل شيئ ومن لا يملكون أي شيئ، وبين هؤلاء طبقة وسطى ضاعت في خضم تدني الأجور والتضخم، وبروز نمط عمراني جديد قسم المجتمع إلى منتجعات تسكنها القلة المترفة، وعشوائيات يعيش فيها ملايين المصريين الذين سحقهم الفقر والحرمان.
هذه هي الملامح الأساسية للمشهد الذي أدى إلى ثورة الشباب والتي سجلناها من قبل في مقالاتنا وكتبنا والبرامج التلفزيونية التي شاركنا فيها، والتي جمعتها جميعا – للذكرى والتاريخ – في كتابي الجديد الذي سيصدر عن دار نهضة مصر بعنوان "مصر بين الأزمة والنهضة: دراسات في النقد الاجتماعي".
كدت أعد الكتاب لكي يطرح في معرض القاهرة الدولي للكتاب لكي يرسخ قواعد النقد الاجتماعي ويؤكد على التزام المثقفين بقضايا الشعب، غير أن الثورة الشبابية باغتتنا جميعاً، وهي التي كانت محصلة تراكمات من النقد الاجتماعي العنيف الذين وجهته مجموعة واسعة من المثقفين النقديين، الذين لم يكتفوا بتحديد السلبيات والإشارة إلى الأخطاء، وإنما قاموا بإعطائها التكييف الصحيح. قامت الثورة إذن وهي في نظرنا بداية للديموقراطية الشعبية المصرية والتي هي على غرار ديموقراطية أثينا، ولكن ماذا سيحدث في اليوم التالي للثورة؟ سؤال يستحق أن نفكر فيه بعمق في ضوء عديد من الظواهر التي برزت في المجتمع عقب الثورة.
(القاهرة)
( باحث مصري)
|