الجمعة, 26 نوفمبر 2010 شفيق ناظم الغبرا *
إن جزءاً مهماً من الضعف العربي الراهن ليس بعيداً من موقع الثقافة والمثقفين العرب في أوطانهم المختلفة. فالثقافة الحرة محاربة أو على أدنى تقدير غير مفهومة في بلداننا العربية. وقد دفع هذا الوضع عدداً ليس بالقليل من المبدعين في مجال الثقافة او الادب وفي مجال المسرح او المعرفة والتأليف للابتعاد طلباً لراحة البال والأمن الذاتي. لكن، هناك فريق آخر من المفكرين والمثقفين يستنزف طاقته في تحدي وضع قائم لا يشجع ابداعاتهم ولا يحتوي قدراتهم. وقد نتجت بالتالي من ذلك الصراع والتخاصم خسارة الحضارة الاسلامية والعربية مساهمات هي احوج ما تكون اليها. إن بلادنا تعيش صراعاً مع الذات يساهم في تجفيف مصادر نهضتها وقوتها. هذا جزء أساس من مأزق العالم العربي الجديد القديم. وعلى رغم الصعود الواضح في دور الرواية العربية كشكل من أشكال التعبير الحر والذي نجح باقتدار في كسر حدة الرقابة، إلا أن ما يقع في بلادنا عبر القوانين المعادية للحريات هو محاولة دؤوبة للالتفاف على الحقيقة وسعي لتزييف المعرفة ومنع التفكير. ومن هنا المأزق الذي ينعكس على الثقافة وصولاً الى ازمات التوريث السياسي. لا يزال الرأي في عالمنا يعامل كجريمة وهذه ممارسة مستوردة من عصور الانحطاط ولا تليق بنا وبعصرنا.
إن الحرب التي تشن على الكتاب وعلى دور النشر العربية في دول عربية عدة استمرار للمشكلة نفسها. فإن كان عالمنا العربي من أقل العوالم انتاجاً للكتب وتحقيقاً للترجمة، فإن السبب لا يعود الى جلهنا او كسلنا بقدر ما هو مرتبط بحالة الرقابة والمقاطعة. ان الحرب على الكتاب ساهمت في جعل الكثير من معارض الكتب العربية معارض فاقدة للروح وخالية من المضمون الحيوي. فمحاربة الكتاب العربي تقع على الدوام عندما يتعرض الكتاب لأمور حياتية وسياسية واجتماعية مثل نقد السلطة، نقد السلفية، اعادة تفسير الدين، القضايا الجنسية، التغير السياسي والحريات. هذا يمثل حالة إمعان في إبقاء العرب في موقع متراجع بين الأمم والشعوب.
هناك امثلة كثيرة تتجاوز معارض الكتب وتلامس تعبيرات الثقافة المختلفة. فعلى سبيل المثال يُمنع المفكر والاستاذ الجامعي في بلدان عربية عدة من تقديم بحث في مؤتمر علمي او سياسي اكاديمي خارج بلاده إلا بعد ان يأخذ إذناً من وزارة تعليمه العالي أو من اعلى الجهات في الدولة، وكثيراً ما يصل الامر الى دائرة الاستخبارات التي تأخذ القرار النهائي في امر الذهاب من عدمه. ونتساءل: ما علاقة أجهزة الاستخبارات بإبداع فكري حر او برواية او بمعرض رسم ولوحات فنية؟ ولكن إن كان صاحب البحث من اصحاب رأي يختلف عن آراء الحكومة، فهو الآخر معرض للرفض سلفاً ولمواجهة العراقيل وصولاً الى منع السفر.
استطيع ان أعدد حوادث كثيرة لمفكرين ومبدعين عرب من دول عربية شتى لم ينجحوا في الحضور بسبب هذه الاجراءات. ونستطيع ان نقيس مدى الضرر الذي يلحق بنا في الفضاء العالمي عندما نتعامل مع الثقافة وكأنها بارود. لكن الذي لا يميز بين الثقافة وبين البارود ينتهي دوماً بتقوية الذين يؤمنون بالعنف ويسعون لممارسته في مجتمعاتنا.
وإن كان اسلوب الدولة هو المنع، فيكون اسلوب المعارضة: البتر. هكذا في ظل غياب نموذج التعبير المفتوح، فإن نموذج العنف والاقصاء يصبح هو السائد لدى الدول ولدى معارضيها. لست متأكداً إن كانت للأنظمة العربية اية مصلحة في تعميم ثقافة العنف، لكن ثقافة العنف هي الاخرى نتجت من غياب التعبيرات الثقافية المختلفة والتي لا يمكن ان تنجح في ظل رقابة حكومية.
إن الذي ينقصنا في بلادنا هو قناعة والتزام بأن التعبير عن الرأي بوسائل سلمية هو حق انساني اساسي يجب ان يكون مكفولاً لكل مواطن وإنسان، وأن جعل هذا الحق يأخذ مكانه في مجال الممارسة والتطبيق هو احدى اهم الطرق التي اكتشفتها حضارات عدة. يكفي ان نستعرض ما حصل مع مفكرين كثر من منع دخول دول وسجن ومحاكمة كما حصل مع نصر حامد ابو زيد لنعرف مدى حجم المشكلة. لقد دفعت هذه الاشكالية النائب في البرلمان الكويتي أسيل العوضي، وذلك بعد سحب جنسية الشيخ ياسر الحبيب بسبب امور تخص رأيه، وبسبب سجن الكاتب الكويتي محمد عبدالقادر الجاسم بسبب امور تتعلق بالرأي، الى ضرورة إقرار قانون بعدم تجريم إي رأي يقال بوسائل سلمية. المقصود من سعي كهذا هو التأكيد أنه لا يجوز تجريم اي انسان على رأيه مهما كان ضعيفاً، وأن الرأي يواجه بالرأي وتعميق الثقافة والحوار لا بالسجن أو بسحب الجنسية.
ان الرقابة قاتلة للثقافة ومانعة لتطورها لأنها تجعل نظاماً سياسياً او حكومة تتحكم بما يقرأه المواطن كما وتتحكم بالكتب ونشرها، وبما ان الحكومة ليست طرفاً محايداً فسيكون من الطبيعي ان تتقزم الثقافة في بلادنا العربية، بل سيكون من الطبيعي ان تهاجر خارج الاوطان كما تهاجر المعارضة وكما يخرج الرأي الآخر. يبقى التساؤل: متى تخرج الدول من كونها الحَكَم على الثقافة، ومتى يصبح الحكم بيد القارئ الفرد والجمهور المتابع والنقاد؟ هل ننتظر وقوع ثورات ديموقراطية ام ان هذا ممكن في ظل الواقع السياسي وسلوكيات اصلاحية؟
وينعكس تحجيم الثقافة على قضايانا القومية والوطنية بصورة كبيرة. بل نجد أنه بعد تكسير أرجل الثقافة العربية والحد من دور المثقفين العرب، ان مساهمة المثقفين العرب في الدفاع عن الحقوق العربية الجماعية والقطرية والفردية لكل دولة عربية في انحسار، بل رويداً رويداً تجف ينابيع القدرة على تمثيل الذات نظراً لحالة التشويه والركاكة التي تكتنفها. يا لها من خسارة مركبة ومتعددة الأدوار. اليوم يقف العربي والمسلم وحيداً بلا ادوات في مواجهة معركة مصيرية مع الداخل المتآكل ومع الاستقواء الخارجي. آن الاوان لفك القيود على الثقافة والمثقفين. يجب استعادة هذا الجمهور الحر الذي خسره العالم العربي في عقود القحط الفكري التي ما زالت مستمرة. إن أهم مقاومة في العالم العربي هي «المقاومة الثقافية» التي تسعى الى حماية الابداع والتعبيرات الحرة والآراء النقدية والمجددة والتي تمثل المدخل لأي تصور للمستقبل العربي والاستقلال الحقيقي.
* استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
|