ما يحدث اليوم في مصر، هو أجمل قصيدة كتبها تاريخ مصر العريق، منذ قرن من الزمان. أساتذة جامعيون، أطباء، مهندسون، تقنيون، عمّال، عاطلون عن العمل، ربّات بيوت، طلاب في جميع مراحل التعليم، بنات، أولاد، مسلمون، مسيحيون، أطفال، شيوخ، معوقون على مقاعدهم، مثقفون، أميّون، تلك هي بعض أطياف الكتلة البشرية الضخمة التي تسكن ميدان التحرير بالعاصمة المصرية، الآن، ومنذ الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) الماضي، ولأجلٍ يعلمه الله، من أجل رحيل النظام الحالي، بعد تسليمه السلطة لحكومة ائتلافية انتقالية يختارها الشعب، ولا أحد سواه. أذهل أولئك الشبابُ اقتناعَ الإنتلجنسيا المصرية، والعالمية، التي كان استقر في وعيها أن المصري الراهن، وبفعل توالي عهود سلطوية قمعية استبدت بمقدّراته طويلا، بات خانعاً، قانعاً بالقدر المقدور الذي لا حيلة لأحد في تغييره سوى السماء، إن شاءت، وأن علينا، كمصريين، أن نقبل بأقلّ القليل من كل شيء: الحرية، المادة، الشعور بالآدمية. الأخطر، هو الرضا بأقل القليل من "الحلم". الحلم، الذي عرّفته الإنسانية كأحد الحقوق التلقائية الفطرية التي تولد مع الإنسان، ولا يموت إلا بموته، ولا سلطان لإنسان في تحجيمه لدى إنسان آخر، بات هذا الحلم لدى المواطن المصري الراهن مضغوطاً تحت سقف واطئ من الاستحالات التي تحاصر نهاره ومساءه.
أذكر أنني استُضفتُ على قناة "الحياة" قبل شهور للحديث عن "أحلام المصريين". وأنا في سيارة التلفزيون، فكرتُ أن أجعل مشاركتي عمليةً وماسّة، فوضعتُ على صفحتي في "فايسبوك"، خلال تلفوني، status، تقول: "اكتبوا لي أحلامكم لأنقلها الى الحكومة". وتجاوب الناس بعشرات الإجابات: بعضها أحلام سياسية، وبعضها أحلام اجتماعية، وبعضها فانتازية تشي بخيال خصب ثري. لكن المحزن، أن ردوداً كثيرة قالت: "إحنا بطّلنا نحلم من زمان، ما جدوى الحلم من دون أفق تحقّق؟ عدم الحلم أفضل من وأده، وأكثر إنسانية". هكذا أجهزت حكوماتُ مصر، ليس على أحلام المصريين وحسب، بل على قدرتهم ورغبتهم في أن يحلموا. وتلك هي الواقعة، التي ليس لها كاشفة.
في كثير من المحاضرات والندوات التي التقيتُ فيها بشباب الجامعات المصرية، كانوا يسألونني عن حلول لما يمر به البلد من انهيار وتردٍّ. ألمح الغضب في عيونهم مما يعانون من قمع وفقر وفساد وترهل مجتمعي واقتصادي وسياسي. وكنت أسألهم: "لماذا لا تثورون بدل الاكتفاء بالتذمر السلبي؟"، وكانوا دائماً يقتبسون إجاباتهم من مقولة سعد زغلول الشهيرة: "مفيش فايدة!". مرةً، راح سائق تاكسي يشكو لي غلاء البنزين وشظف العيش وقمع المرور وانعدام العلاج في مشافي الحكومة ووو، فسألته السؤال نفسه: "لماذا لا تثور؟"، فكانت إجابته عجيبة. قال: "الشيخ الشعراوي، الله يرحمه، حلّها لنا". سألتُه: "كيف؟"، "قال لنا إن كل إنسان في الدنيا له 24 قيراطاً كاملة. يختلفون في ما بينهم في طبيعة هذه القراريط، لكنهم جميعاً متساوون في النهاية، لأن الله عادل. فالغني، مثلا، لديه 22 قيراط مال، وقيراط صحة، وقيراط عيال، بينما الفقير لديه قيراطان عيال، وقيراط صحة، و21 قيراط راحة بال". من العسير أن تسأله من أين تأتي راحة البال لمن لا يملك قوت يومه، لأنه سيكلمك فوراً عن قصور الجنة والحور العين اللواتي في انتظاره بالفردوس. هذا هو "أفيون الشعوب"، كما قال كارل ماركس. هكذا في وسع رجل الدين، الحكوميّ، أن "يفصّل" من نصوص الدين نسيجاً زائفاً يخدع به الناس ويجعلهم يتواطأون على أنفسهم مع الحاكم الظالم، لأن النص القرآني يقول: "وأطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم". فطاعة الحاكم واجبة، وإن كان فاشياً. هكذا انقسم الشعب التعس، حتى الأمس القريب قبل أسبوع، بين نظرية "القراريط"، ونظرية "مفيش فايدة".
لكن شباب مصر الواعي انتبه اليوم أن ثمة "فايدة"؛ فثاروا في الأخير. ثورة بيضاء ناصعة. غضبَ غضبةً ساطعة سلميّة راقية، تليق باسم مصر العريق. مصر هي أول دولة في التاريخ يخرج فيها مصريّ، قبل خمسة آلاف عام، بسؤال، سرعان ما تحول إلى قانون كونيّ، هو: "من أين لكَ هذا؟". أول دولة في التاريخ يخرج فيها العمال بإضراب على الحاكم لرفع الأجور. أول دولة بالمعنى السياسي والاجتماعي في تاريخ الإنسانية. دولة كتلك لا يليق أن يحدث فيها ما حدث على مدار خمسين عاماً من التردي والتخلّف والانهيار، مذ تم غزوها بوهابيي السعودية، الذين بذر السادات بذرتهم الأولى في مصر مع السبعينات الماضية، وكان أول من تجرّع سمّهم، وأول من استقبل نحرُه سيفَهم، كأنما ارتدّ السحر على الساحر، ولا تزال سمومهم تسري في شرايين مصر حتى أنهك قلبَها النبيل. أكتبُ إليكم عصر يوم "جمعة الرحيل"، 4 شباط (فبراير) 2010، الموافق اليوم الحادي عشر من تلك الانتفاضة النبيلة. أولئك المعتصمون في ميدان التحرير الآن، ليسوا من الجياع ولا الرعاع ولا العاطلين ولا المشردين، مثلما كانت انتفاضة الجياع في كانون الثاني (يناير) 1977، التي سمّاها السادات زوراً "انتفاضة الحرامية"، إنما هم من انتلجنسيا صفوة أبناء مصر من حيث الثقافة والتعليم، أو المستوى الطبقي الاقتصادي. شبابٌ مصريون من الأطباء والمهندسين والمهنيين وطلاب الجامعات الراقية، قرأوا مستقبل مصر المظلم، فقرروا نجدتها، وإن أُهرِقت دماؤهم. لا ينتمون إلى أحزاب، ولا تحركهم قيادات مركزية ولا ريادات زعامية. تحركهم، وفقط، أحلامُهم بغدٍ أفضل لمصر وللمصريين. تواصلوا مع إخوانهم من بسطاء مصر وفقرائها وعاطليها عبر شبكات الانترنت والـ"فايسبوك"، فالتفّ الشعب في كتلته العريضة من حولهم، فنتجت من ذلك أطيافٌ شعبية تجمع في سلّتها الضخمة، ما لا يجتمع. تلك السلّة التي هي الآن قلب مصر النابض بالحياة: ميدان التحرير. اتفقوا أن يكون يوم الغضب الأبيض الثلثاء 25 كانون الثاني (يناير)، وهو عيد الشرطة المصرية، رمزاً لرفض ممارسات رجال البوليس الفاشية مع الأبرياء والمتهمين، على السواء، حدّ القتل والترويع والتعذيب وإراقة كرامة الإنسان. اختيار اليوم، كان له دلالته، واختيار آلية التظاهرة كان له دلالته. تظاهرة سلمية بيضاء، في يوم يوافق عيد جهازٍ تفنّن في الأداء الدموي مع الشعب على مر عقود طوال. كأنما الشعب يقول لرجالات حكومته: "نحن أرقى منكم. تروّعوننا، ونعتصم في سلام، تقتلوننا، ونرفض في هدوء، تهدرون آدميتنا، ونأبى في رقيّ".
بالرغم من الإعلان المسبق عن الانتفاضة، إلا أن الحكومة لم تتخيل أن ثورةً حقيقية تلوح في الأفق. توجستْ، ولم تخف. ترقّبتْ، ولم تراجع نفسها. وكأن لسان حال الحكومة يقول: دعهم يُفرغون طاقاتهم، مثلما كان يفعل المسرح الإغريقي في ما يعرف بالتطّهر الأرسطي، فيخرج الجمهور من المسرح وقد تخلص من أوجاعه بعدما شاهد الأبطال التراجيديين يواجهون المحن والكوارث. سرت نكاتٌ في الشارع المصري عن الأمر، فالشعب المصريّ أجمل مَن يحوّل المحن إلى دعابة ليسخر من كوارثه. تقول إحداها: "أعلنت الحكومة المصرية أن اليوم الموافق 24 كانون الثاني (يناير)، هو المتمم للشهر الحالي، وأن غداً الثلاثاء هو أول أيام شهر شباط (فبراير)". كأنما الحكومة تريد أن تمحو يوم 25 كانون الثاني (يناير) من التاريخ والروزنامة، خوفاً من الانتفاضة.
في البدء، يوم الثلثاء 25 كانون الثاني (يناير)، كانت الشعارات المرفوعة على أكفّ بضعة آلاف من الشباب تنادي بالإصلاح السياسي. إقامة دولة مدنية حرّة، إقالة الحكومة الحالية، حلّ البرلمان المزوّر، تحجيم البطالة، رفع الحد الأدنى للأجور، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، إلغاء قانون الطوارئ، إعادة النظر في بنود عدة بالدستور المصري، خصوصاً المواد: 76، 77، 88، التي تناقش صلاحيات الرئيس ومدد تمديده، والإشراف القضائي على الانتخابات. جميعها مطالب بسيطة ومشروعة وغير مغالية، في وسع أي حاكم حصيف أن ينظر فيها. لم يكن من بينها إقالة النظام أو تنحّي الحاكم. لكن الحاكم صمَتَ أربعة أيام صمْتَ المتعالي المستخفّ. الثلثاء، الأربعاء، الخميس، ثم نهار "جمعة الغضب" 28 كانون الثاني (يناير). صمد المتظاهرون في الميدان بكل رقيّ وسلام وهدوء، حتى أنهم كانوا يمنعون أي متظاهر تأخذه الحماسة فيحاول رفع يد الغضب، قائلين له: نريدها سلمية. خلال تلك الأيام كان رجال الشرطة يعوّقون التظاهرة البيضاء بالعصيّ والقنابل المطاطية والمسيّلة للدموع، فسقط عشرات الصرعى ومئات الجرحى (تخطوا، حتى اللحظة، ثلاثمئة شهيد، وآلاف الجرحى)، لكنها، على رغم هذا، ظلّت سلمية، من جانب الثوار. وعند عصر الجمعة، انسحب رجال الشرطة، وفوراً اندلعت أعمال التخريب التي بدأت بمحاولة السطو على المتحف المصري. ثم تبيّن، للعجب، أن المخرّبين من أفراد الأمن الذين استبدلوا زيّهم الرسمي بملابس مدنية، كي يظن الرأي العام أن المخرّبين من شباب المتظاهرين. لكن نبلاء مصر ألقوا القبض على سارقي المتحف المصري وسلّموهم الى الجيش، الذي كان نزل الساحة خلال تلك الساعات لحفظ النظام وتحجيم حال الانفلات الأمني. هنا عرف الجميع أن الناهبين ليسوا إلا ضباط شرطة وأفراد الأمن المركزي. ثم فُتحت السجون وفُرّغت من المسجّلين الخطرين واللصوص والقتلة لينتشروا في أنحاء مصر يسطون على المنازل والمحال والبنوك، ويروّعون الآمنين. كان هذا تمهيداً مخططًا له، ليبرر خروج الرئيس ببيان الى الشعب بعد صمت دام أكثر من تسعين ساعة كانت مصر خلالها تشتعل غضباً راقياً من جهة الشعب، وتخريباً وترويعاً منظّماً من جهة النظام. كان الهدف من هذا الانفلات الأمني هو وضع الشعب في مواجهة معادلة ازدواجية شهيرة: النظام الحالي، أم الانفلات الأمني. وعلى الشعب أن يختار أحدهما، كذلك كان الهدف استقطاب المتظاهرين لبيوتهم لكي يحموا أهاليهم وممتلكاتهم من أصابع اللصوص والبلطجية الذين انتشروا في شوارع مصر. لكن الشباب الذكي قسّموا أنفسهم ورديات عمل. ورديات ليلية تقوم فيها اللجان الشعبية من شباب كل حي بحماية المنازل والممتلكات، وتسليم مَن يتم إلقاء القبض عليه من المخرّبين إلى رجال الجيش الذين انتشرت مدرّعاتهم في الأحياء والميادين. وفي النهار يعودون إلى بيتهم الكبير: ميدان التحرير. وفي تخبطها واختلال موازينها، ارتكبت الحكومة خطأ آخر يثقل كفّة أخطائها. قطعت خدمات الانترنت والمحمول عن مصر بأسرها، ظنّاً منها أن هذا سيعطّل تواصل المتظاهرين في ما بينهم فتُجهَض حركتُهم، إلا أن الشباب لم يعبأ، وما زاده هذا إلا فقدان الرجاء التام في حاكم لم يتعلم بعد فنّ الإنصات إلى لغة شعبه وشبابه الجدد.
في بيانه الأول فجر السبت 29 كانون الثاني (يناير)، الذي تلا "جمعة الغضب"، أقال مبارك حكومة "نظيف" التي كرهها الشعبُ مجتمعاً منذ تعيينها عام 2004، وأمر بتنفيذ الأحكام القضائية في الطعون الموجهة ضد أعضاء البرلمان. وفي اليوم التالي أصدر قرارات عدة، بعضها جفّ حلقُ الشعب المصري جراء المطالبة به طوال ثلاثين عاماً. مثل تعيين نائب للرئيس، للمرة الأولى في تاريخ مبارك المديد (كان، كلما سألناه لماذا لا تعيّن نائباً، قال: لم أجد في مصر من يصلح لهذا المنصب!)، وإقالة أحمد عز، أحد ناهبي ثروات مصر، من أمانة التنظيم في الحزب الوطني، وتكليف نائب الرئيس إجراء حوار مع أحزاب المعارضة، على رغم أن المعارضة لا ناقة لها ولا جمل في هذه التظاهرة الشعبية الرفيعة، ذاك أنها في واقع الحال ليست إلا أحزاباً ورقية لا بصمة لها في الشارع المصري. وعلى رغم أن تلك أحلامٌ بعيدة المنال لم نكن نتوقع تحققها، إلا أن صمت التسعين ساعة كان قد أشعل غضب الثوار، فلم يفرحوا بها، ولم يقبلوها، ولم يعودوا إلى منازلهم. لم يعترفوا بشرعية النائب ولا بشرعية الحكومة، بما أن الحاكم ذاته فقد شرعيته لديهم. ثم دعوا الى تظاهرة مليونية ضاربين بعرض الحائط قرار حظر التجوال الذي ظلت ساعاته تتزايد يوماً بعد يوم. تزايد عددهم في كل ميادين محافظات مصر، وكسروا حاجز المليون، ثم تخطّوه نحو الملايين. وعلينا أن نحتسب أن وراء كل معتصم من أولئك، أسرةً في متوسط أربعة أفراد، بما يعني أن علينا ضرب هذا الرقم في أربعة. على أن غضبهم ظل راقياً أبيض، لم تلوّثه شعارات بذيئة، أو لافتات فقيرة الأدب، تلك التي كان يتم وأدها فوراً إذا ما حدث، نادراً، ورفعها محتجٌّ أخذته الحماسة. بل كانوا ينظفون الميدان بأنفسهم كي تكتمل الصورة النقية الرفيعة التي قرروا رسمها لمصر وللعالم بأسره. أن في مصر شعباً يعرف كيف يحتجّ بتحضّر وجمال. ثم ارتفع سقف المطالب إلى إقالة النظام. وصمت الرئيس مبارك من جديد، وهو يطمئن نفسه بأن ما قدمه كثير، وسخيّ، ولن يلبث الناس أن يقنعوا، وينسحبوا. وربما طمأن نفسه كذلك بمساندة أميركا وإسرائيل لحكمه، هو الحليف الأمين لمصالحهما في الشرق الأوسط. صمت من جديد وهو يراهن على، لا أدري علامَ يراهن!، وتعاظمت مطالب الشباب، لتتكثّف، في الأخير، في مطلب واحد وحيد: "رحيل مبارك الفوري". وتوحدت الشعارات واللافتات لتقول قولاً واحداً: "الشعب، يريد، إسقاط النظام". صمتَ مبارك من جديد أياماً طوالا، ليخرج على شعبه ليل الثلثاء 1 شباط (فبراير) ببيان ثانٍ، والأخير حتى لحظة كتابة المقال، لم يُزد فيه إلا إعلانه عدم نيته الترشّح لفترة رئاسية سادسة، إذ تنتهي ولايته الحالية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، والنظر في مادتي الدستور 76، 77. فانفجر غضب الناس وأقرّوا بعدم مشروعية الحكومة، وأن لا حوار مع أحد قبل رحيل مبارك فوراً عن مصر. ثم توالت مِنح مبارك، وحكومته، وتزامن معها تزايد غضب الناس إلى أفق الأفق بالمطالبة بمحاكمة مبارك وحاشيته، بل ونظّموا محاكمة رمزية في الميدان ومشانق تتدلى منها دمىً تحمل وجه مبارك ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي، ومحتكر حديد مصر أحمد عزّ. بعد ذلك، وتزامناً مع صمت الرئيس المستطيل، بدأ ذهن الحكومة يتفتق عن إطلاق حشود مضادة لحشود الشرفاء المحتجين. حشود تهلل لمبارك وتؤيد "تأبيده" في الحكم إلى أجل غير منظور، وتعدد مآثره على مصر والمصريين. المدهش أن أولئك المهللين الذين راحوا يرقصون أمام كاميرات الفضائيات المصرية يتوسلون للرجل ألاّ يرحل، كانت سيماء الفقر والمرض بادية على وجوههم، فكان السؤال هو على أيّ أساس يحبّون رئيسهم، وكم من القروش الزهيدة قبضوا لكي يهتفوا بحياته. وطبعاً لم تخلُ جوقة المطبّلين للحاكم من فنّانين، اختاروا أن يشطبوا شعبيتهم، إن كان ثمة، ليناصروا فرداً يبيعون من أجله ثمانين مليون مواطن. منهم إلهام شاهين وشريف منير وهالة صدقي وزينة، وسواهم، ومنهم أيضاَ لاعبو كرة قدم مثل حسام حسن وتوأمه إبرهيم، وهاني رمزي، وخالد الغندور ومرتضى منصور، مثلما لم تخلُ الجوقة من صحافيي "الأهرام" و"روزا اليوسف"، المؤيدتين للنظام، وطبعاً رجال الحزب الوطني الذين ظلوا يذكرون أيادي مبارك البيضاء على مصر على مدى عشرة أيام على قنوات مصر الفضائية، التي كانت تؤكد باستماتة أن الشعب "كله" يؤيد مبارك، وأن تلك "الفئة القليلة المندسة" من المتظاهرين، لا تمثل شعب مصر. فالمأزق الذي وقع فيه رجال النظام هو أنهم لا يزالون يواجهون الأخطار بعقلية عتيقة، لم يعد من جدوى لها. تقطع بث القنوات الفضائية العربية والعالمية، كي تجبر المواطنين على مشاهدة قنواتها الرسمية الكذوب، وتقطع الانترنت والتلفونات كي تمزّق الحبال السريّة بين الشعب، وتدفع للمرتزقة لكي يؤيدوا النظام وتمنع عن الموظفين رواتبهم إن لم يخرجوا في تظاهرات تندد بالمتظاهرين، الخ. عقلية تظن أن حلول الليل يجعل الظلام ساتراً لما يحدث، وتغفل أن الكاميرات في كل ملليمتر من الكوكب تصوّر وتسجّل، وأن مع كل مواطن هاتفاً محمولاً يصوّر ويسجّل. فضائيات مصر كانت ترفع لافتات التأييد، وتسخر من فئة منشقة قليلة تريد التغيير، بينما في فضائيات العالم العالمية والعربية، "سي ان ان"، "بي بي سي"، "الجزيرة"، "العربية"، "الحرة"، كانت الكاميرات تجوب ميادين مصر وتنقل صور ملايين المصريين الرافضين مبارك، جملةً وتفصيلاً، وتنقل أصوات المعتصمين الغاضبين الذين أكدوا أن لديهم من الوعي السياسي والفكري ما يفوق حكومات مصر المتعاقبة.
إحدى المتظاهرات أجرت معها قناة "الجزيرة" مداخلة تلفونية قالت فيها كلاماً يشي بحجم الوعي الرفيع الذي يمتلكه أولئك الثوار. أستاذة جامعية اسمها الدكتورة منى بشير قالت إنهم عُزّل يقطنون الميدان في سلام، يختصمون آلة جبارة عاتية تمتلك العتاد والأسلحة والسلطان والأموال والسيادة والمقدرة على قمع الناس وتحريكهم. لكنهم، أولئك العُزّل، يمتلكون ما هو أخطر من كل ما سبق، يمتلكون الإيمان بحتمية إنقاذ الوطن والمواطنين. وهذا الدكتور شريف زحط، الطبيب البشري، وأستاذ الجامعة، قال إنه ترك زوجته وأطفاله في البيت واعتصم بميدان التحرير منذ اليوم الأول لأنه يريد أن يعود أطفاله الى المدرسة فيجدون تعليماً حقيقياً، ويريد أن يعود إلى عمله في المستشفى فيجد الدواء الذي يعالج به مرضاه، ويجد الراتب الذي يليق بطبيب، فلا يضطر الى فتح عيادة يمتص فيها دماء الفقراء. فليس المهم هو عودة الحياة الطبيعية الى مصر، بل المهم نوعية تلك الحياة. سألته المذيعة لماذا لا يوافق المتظاهرون على منح الحكومة الجديدة فرصة، لا سيما أنها أعلنت أن الإصلاح التام سيحصل خلال ستة شهور فقط، فلماذا لا يصبرون؟ فردّ عليها بوعي مستنير قائلا: إن الحاكم الذي في وسعه أن يحقق إصلاحاً في ستة شهور، وتقاعس عن فعل ذلك خلال ثلاثين عاماً، لا يصلح أن يكون حاكماً، بل لا بد من أن يُقدَّم الى المحاكمة". هذه ثورة سيسجلها التاريخ بحروف من نور لكي تُستلهَم على مدى المستقبل من كل شعب قُدِّر له أن يقع تحت وطأة نظام فاشي.
|