لعل عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في وداع سلفه الراحل البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير شكلت الاختصار الاكثر بلاغة وتأثراً وتأثيراً في آن واحد لكل ما أثاره رحيل حبر اتسم بصفات تاريخية بحق. وجاء الوداع الكبير في الجنازة الحاشدة التي ملأت ساحات بكركي ومحيطها ليؤكد أن الراحل الكبير الذي شكلت سيرته البطريركية عقوداً مميزة من النضال من أجل السيادة والاستقلال والحرية للبنان بمثابة يوم وفاء وطني للبطريرك صفير بما يعكس عمق التقدير والمهابة والاحترام التي يحظى بها لدى اللبنانيين من كل الطوائف والمناطق والفئات الاجتماعية. ذلك ان مشهد بكركي والطرق المؤدية اليها بعد ظهر أمس كان بحق مشهدا وطنياً رسمياً وشعبياً وسياسياً جامعاً بالاضافة طبعاً الى ما عكسته مشاركة موفدين من دول عدة وممثلين لرؤساء وأمراء وملوك مما أضفى على الجنازة أبعاداً ودلالات بارزة عكست عمق الاثر الذي تركه رحيل البطريرك صفير والاثقال التي يتحملها البطريرك الراعي في المضي قدما في رسالة بكركي ودورها التاريخيين.
وربما تمثلت أبرز الدلالات التي حملت رمزيات سياسية ووطنية في يوم وداع البطريرك، في كثافة مشاركة الوفود الشعبية من مختلف المناطق، لكن المشاركة الأبرز كانت من منطقة الجبل التي ضرت منها وفود كبيرة على رأسها رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب تيمور جنبلاط وأعضاء الكتلة النيابية وعدد كبيرمن مشايخ الدروز والمحازبين الاشتراكيين وأبناء الجبل. وعلى رغم توقفه عن تقبل التعازي، استقبل البطريرك الراعي جنبلاط والمشايخ والوفد المرافق. كما تميزت مشاركة أحزاب وقوى أخرى في مقدمها "القوات اللبنانية"، فيما اكتسب جلوس رئيسها سمير جعجع الى جانب رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية الى منصة رؤساء الاحزاب دلالة مميزة، علماً ان مصالحة "القوات" و"المردة" كانت ثمرة جهد لبكركي والبطريرك الراعي شخصياً.
وتقدم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء سعد الحريري الحضور الرسمي والسياسي والديبلوماسي والديني، كما شارك في مراسم الدفن أيضاً كل من وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي جان - إيف لودريان ممثلاً الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، السفير السعودي وليد البخاري ممثلا العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، الوزير محمد بن عبد العزيز الكواري ممثلاً أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، القائمة بأعمال الأردن وفاء الأيتم ممثلة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، السفير الفلسطيني اشرف دبور ممثلا الرئيس الفلسطيني محمد عباس وكريستينا رافتي ممثلة رئيس قبرص.
ومن أبرز ما قاله البطريرك الراعي في وداع سلفه وسط حشود المشاركين في ساحة بكركي: "تأتي اليوم الشهادات عن هذا البطريرك الكبير من كل فم وعبر جميع وسائل الإعلام. فالكل يجمع على أنه "خسارة وطنية". ورأوا فيه بطريرك الاستقلال الثاني، والبطريرك الذي من حديد وقدّ من صخر، وبطريرك المصالحة الوطنية، والبطريرك الذي لا يتكرر، المناضل والمقاوم من دون سلاح وسيف وصاروخ، وصمام الأمان لبقاء الوطن، وضمان لاستمرار الشعب. وأنه رجل الإصغاء، يتكلم قليلاً ويتأمل كثيراً، ثم يحزم الأمر ويحسم الموقف. وكجبل لا تهزه ريح، أمديحاً كانت أم تجريحاً أم رفضاً أم انتقاداً لاذعاً. فكان في كل ذلك يزداد صلابة. أما الشهادة الناطقة الكبرى فهي الوفود من جميع المناطق اللبنانية ومن الخارج التي ما فتئت تتقاطر للتعزية والصلاة منذ صباح الأحد، والحشود التي لا تحصى، وقد وقفت لوداعه على الطرق في خط متصل من مستشفى أوتيل ديو إلى بكركي. هذا الحزن العارم الذي عاشه اللبنانيون، ترجمته الحكومة اللبنانية مشكورة بإعلان يوم أمس يوم حداد وطني تنكس فيه الأعلام، واليوم يوم إقفال عام للمشاركة في وداع هذا الراعي المثالي".
وأضاف: "كان لنا قدوة في صبره وصمته وصلاته وغفرانه وقوله: "لن أكون الحلقة التي تنكسر". وهو المؤمن بأن الصليب يؤدي حتما إلى القيامة. وهكذا كان، وإذا بالوطن ينجو، وبالجميع يعودون للإلتفاف من حوله وسماع صوت هذا الراعي... بهذا الإيمان الصامد على صخرة الرجاء، راح يملأ الفراغ السياسي، مجاهداً من أجل تحرير أرض لبنان من كل احتلال ووجود عسكري غريب، وشعاره مثلث: "حرية وسيادة واستقلال"، وهو صدى لصوت أسلافه البطاركة العظام، بدءا من خادم الله البطريرك الياس الحويك أبي لبنان الكبير، والبطريرك أنطون عريضه صانع الإستقلال وضامن الميثاق الوطني".
ومنح الرئيس عون البطريرك الراحل الوشاح الاكبر من وسام الاستحقاق اللبناني تقديرا لما قدمه للبنان.
جان - إيف لودريان
وصرح وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي جان - إيف لودريان بعد مراسم جنازة البطريرك صفير: "جئت إلى لبنان اليوم لأعرب عن تعازي الرئيس ماكرون وتعازي الشعب الفرنسي للسلطات الدينية والكاردينال الراعي والطائفة المارونية والسلطات اللبنانية والشعب اللبناني، بعد رحيل البطريرك صفير الذي كان شخصية عظيمة. كان أولاً رجل الكنيسة. كان حريصاً جداً على مكانة المسيحيين في المجتمع اللبناني، وبشكل عام في الشرق الأوسط، وأنتم تعرفون حرص فرنسا على مسيحيي الشرق. كما كان أيضاً وطنيًا فأكد باستمرار ضرورة قيام لبنان مستقل، لبنان سيد، لبنان موحد. وهذا أيضاً ما تدافع عنه فرنسا. وأخيراً، كان رجل سلام لأنه كان طوال حياته صانع المصالحة الوطنية اللبنانية. وكان أيضاً صديقاً لفرنسا. لكل هذه الأسباب، أردت أن أكون هنا اليوم لتمثيل الرئيس ماكرون والقول للبنانيين إن فرنسا موجودة دائما إلى جانبهم في الأوقات السعيدة ولكن أيضاً في الأوقات الصعبة واليوم في لحظة الحداد هذه".
ورأى أن "استقلال لبنان واستقراره وأمنه مبادئ حتمية. وكان الكاردينال صفير قد رسم الدرب في هذا الاتجاه ومن الضروري أن تسير جميع الجهات السياسية اللبنانية المسؤولة عن هذا البلد الجميل على هذا الدرب. فرنسا ستكون دائما على الموعد. ويعتمد هذا الموعد أيضاً على ما بدأناه معاً في مؤتمر سيدر الذي يمنح لبنان الوسائل اللازمة للتعافي، ولإيجاد طريق الصفاء والوحدة. نحن مستعدون لهذا الموعد وآمل أن يكون اللبنانيون كذلك".
الراعي: كان لنا قدوة
أخرج الجثمان من كنيسة الصرح، وحمل على الاكتاف وخرق الباحة بين الجموع المشاركة على وقع التراتيل، وكأنه عريس الكنيسة. وتقدم الجثمان البطريرك الراعي والمطارنة وخدام يحملون عصا البطريرك الراحل وصليبه وتاجه. وفي هذا الوقت، وصل رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري في السيارة نفسها، الى باحة الصرح، وكان آخر الواصلين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل بدء الصلاة.
وترأس الراعي مراسم الدفن بمشاركة بطريرك الروم الكاثوليك يوسف الأول عبسي، بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك الأرمن الأرثوذكس آرام الأول كيشيشيان، بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر، البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، ممثل البابا فرنسيس رئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري، السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتري وعدد كبير من المطارنة والرؤساء العامين والرهبان والراهبات وممثلي الكنائس المختلفة.
وألقى الراعي عظة بعنوان "أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي، وهي تعرف صوتي"، تناول فيها مراحل حياة الراحل "منذ لمع في الكهنوت، فعيّنه المثلث الرحمة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي أمين سره سنة 1956، في أول عهده. وبفضل خصاله رأى فيه البطريرك المعوشي وجه الأسقف، فقدمه للسينودس المقدس في دورة 1961 فانتخبه مطرانا نائبا بطريركيا عاما، وهو في سنيه الإحدى والأربعين. ثم كان الساعد الأيمن للمثلث الرحمة البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، كنائب بطريركي عام مع زميل منتخب ودعناه الأسبوع الماضي بكثير من الألم والأسى هو المثلث الرحمة المطران رولان أبو جوده. فقاد الثلاثة عملية احتضان المهجرين وسائر ضحايا الحرب اللبنانية المشؤومة التي اندلعت في 13 نيسان 1975، بعد شهرين من تنصيب البطريرك. وقادوا المقاومة الروحية والاجتماعية والسياسية والديبلوماسية داخليا وفاتيكانيا ودوليا، بوجه الحرب الأهلية ومخططات الهدم".
وأضاف: "عندما انتخب بطريركا في نيسان 1986، وهو لم يطلب البطريركية ولا سعى إليها بل أعطيت له مع مجد لبنان، كان على أتم الاستعداد لحمل صليبها، بفضل ما اكتنزت شخصيته من روح رئاسي وراعوي وقيادي. وراح للحال يعمل على إسقاط الحواجز النفسية ثم المادية، وشد أواصر الوحدة الوطنية وأجزاء الوطن، وإعادة بناء الدولة بالقضاء على سلطان الدويلات، وتعزيز العيش المشترك الذي كان يعتبره جوهر لبنان ورسالته الحضارية. ذلك أن لبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يتساوى فيه المسلم والمسيحي على قاعدة الميثاق الوطني والدستور".
وتابع:" تأتي اليوم الشهادات عن هذا البطريرك الكبير من كل فم وعبر جميع وسائل الإعلام. فالكل يجمع على أنه "خسارة وطنية". ورأوا فيه بطريرك الاستقلال الثاني، والبطريرك الذي من حديد وقدّ من صخر، وبطريرك المصالحة الوطنية، والبطريرك الذي لا يتكرر، المناضل والمقاوم من دون سلاح وسيف وصاروخ، وصمام الأمان لبقاء الوطن، وضمان لاستمرار الشعب. وأنه رجل الإصغاء، يتكلم قليلا ويتأمل كثيرا، ثم يحزم الأمر ويحسم الموقف. وكجبل لا تهزه ريح، أمديحا كانت أم تجريحا أم رفضا أم انتقادا لاذعا. فكان في كل ذلك يزداد صلابة. أما الشهادة الناطقة الكبرى فهي الوفود من جميع المناطق اللبنانية ومن الخارج التي ما فتئت تتقاطر للتعزية والصلاة منذ صباح الأحد، والحشود التي لا تحصى، وقد وقفت لوداعه على الطرقات في خط متصل من مستشفى أوتيل ديو إلى بكركي. هذا الحزن العارم الذي عاشه اللبنانيون، ترجمته الحكومة اللبنانية مشكورة بإعلان يوم أمس يوم حداد وطني تنكس فيه الأعلام، واليوم يوم إقفال عام للمشاركة في وداع هذا الراعي المثالي".
وتحدث الراعي عن خبرته مع البطريرك الراحل قائلا: "لقد شاركته معاناته في السنوات الأربع الأول من بطريركيته كنائب بطريركي عام مع المثلث الرحمة المطران رولان أبو جوده. وقد لاقى فيها، على التوالي ومنذ البداية، مرارة الرفض والتهميش والإساءة والاعتداء الجسدي والمعنوي، بالإضافة إلى ويلات الحرب والضياع. فكان لنا قدوة في صبره وصمته وصلاته وغفرانه وقوله: "لن أكون الحلقة التي تنكسر". وهو المؤمن بأن الصليب يؤدي حتما إلى القيامة. وهكذا كان، وإذا بالوطن ينجو، وبالجميع يعودون للإلتفاف من حوله وسماع صوت هذا الراعي. فانطبقت عليه الآية الإنجيلية: "سينظرون إلى الذي طعنوه" (يو27:19). وفهمنا أكثر فأكثر كلمة بولس الرسول: "لو لم يقم المسيح، لكان إيماننا باطلا، وتبشيرنا باطلا، ولكنا أمواتا في خطايانا" (1كور17:15). بهذا الإيمان الصامد على صخرة الرجاء، راح يملأ الفراغ السياسي، مجاهدا من أجل تحرير أرض لبنان من كل احتلال ووجود عسكري غريب، وشعاره مثلث: "حرية وسيادة واستقلال"، وهو صدى لصوت أسلافه البطاركة العظام، بدءا من خادم الله البطريرك الياس الحويك أبي لبنان الكبير، والبطريرك أنطوان عريضه صانع الإستقلال وضامن الميثاق الوطني".
وأضاف: "شاء بطريركنا الراحل لقاء قرنة شهوان إطارا جامعا للقوى المسيحية المؤمنة بسيادة الوطن، وصدى لصوته في المحيط السياسي. بهذا الهدف كان على تنسيق دائم مع القديس البابا يوحنا بولس الثاني الذي تبنى قضية لبنان بنداءاته ورسائله وديبلوماسية الكرسي الرسولي، وعقد جمعية خاصة لسينودس الأساقفة الروماني" من أجل لبنان سنة 1995، وأصدر إرشاده الرسولي موقعا في بيروت بتاريخ 12 أيار 1997، وهو بعنوان: "رجاء جديد للبنان"؛ وجالس رؤساء الدول الكبرى من مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة، فضلا عن لقاءاته مع بعض أمراء دول الخليج ورؤساء دول آخرين.
ومع كل ذلك ظل شغله الشاغل شأن كنيسته المارونية والكنائس في لبنان وبلدان الشرق الأوسط".
البابا: رجل حرّ
ثم منح البابا فرنسيس، في كلمة ألقاها باسمه ساندري، البركة الرسولية "لكل عائلة صفير وأقربائه وكل الاشخاص الذي رافقوه لسنيه الأخيرة وكل الذين يشاركون في مراسم هذه الجنازة". وتقدم بالتعازي لأبناء الكنيسة المارونية "التي رعاها لسنين عديدة بكل وداعة وبكل حب، رجل حر شجاع، هو الكاردينال صفير الذي قام برسالته بظروف مضطربة مدافعا غيورا عن سيادة واستقلال بلده وسيبقى وجها لامعا في تاريخ لبنان".
وبدوره منح الرئيس عون البطريرك الراحل الوشاح الاكبر من وسام الاستحقاق اللبناني تقديرا لما قدمه للبنان.
وبعد انتهاء صلاة الدفن، قبّل البطريرك الراحل بنعشه المذبح للمرة الاخيرة على الارض، قبل أن ينتقل الى لدن خالقه حيث الذبيحة السماوية. ورافق البطريرك الراعي والبطاركة المشاركون في الصلاة وعدد كبير من الاساقفة الجثمان الى مقبرة البطاركة في الصرح البطريركي.
|