الإثنين, 07 فبراير 2011
باريس – رندة تقي الدين
رأى غسان سلامة (الوزير اللبناني السابق ورئيس ومؤسس معهد الشؤون الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس) أن ما يحصل حالياً في مصر وتونس واليمن والأردن له مدخل مشترك من حيث انه انتفاضة أخلاقية على سلطات حاكمة اعتبرت الدولة ملكاً لها. ما حصل في هذه الدول له مدخل مشترك، لكن مخارجه مختلفة لكل دولة. وكانت السلطة في الماضي تقدم خياراً واحداً: إما السلطة أو الحركات الإسلامية، لكن ما يحدث الآن يظهر شرائح واسعة من الشباب في الدول تنتفض أمام الأفق المسدود في وجهها فيما التيارات الإسلامية تتابع هذه الحركات ولا تقودها. وقال إذا نظرنا الى ستينات القرن العشرين، نجد أن عبدالناصر وبورقيبة أو بومدين لم يكونوا ديموقراطيين على الإطلاق لكن حياتهم كانت زاهدة بسيطة، يسكنون في شقق متواضعة ولا يعتبرون الدولة ملكهم، وهم لم يورثوا أبناءهم، كانوا يحكمون كما يشاؤون لكنهم لا يتملّكون الدولة.
ورأى ان الأحداث تظهر انحساراً في نفوذ الغرب منذ زمن، وأن ما سرّع هذا الانحسار ولايتا جورج دبليو بوش اللتان أظهرتا عدم قدرة الجيش الأميركي على مواجهة 15 الى 20 ألف منتفض عراقي. وتوقع سلامة ان يبقى دور الغرب هامشياً في بقاء السلطات وفي بناء التركيبة الجديدة.
ورأى أن تونس تتجه الى مخرج مقبول وسلمي فيما المخرج المصري مختلف، كون دور الجيش في المجتمع والاقتصاد كبيراً جداً، وموقع مصر الاستراتيجي بالنسبة الى إسرائيل وعدد من الأمور الأخرى يبدو مختلفاً، هذا الوضع قد يؤدي الى تدخلات خارجية في مصر أكثر مما شهدت تونس، وأن الجيش المصري ينبغي ان يخرج من السياسة ويتسلّم المدنيون السلطة للتوصل الى تنظيم انتخابات والطعون في التزوير الذي حصل في الانتخابات، وأن التجربة التركية هنا مثل مهم.
وعن أوضاع لبنان قال ان انتقال الأكثرية النيابية والحكومية من مكان الى آخر أدى الى تغيّر في توجه لبنان السياسي في المنطقة وقد تم هذا الانتقال بالأكثرية، ولكن، بضغط له أبعاد أمنية. واعتبر ان جوهر الخلاف هو بين من يقول ان جنوب لبنان يجب ان يبقى حياً لمواجهة إسرائيل وهذا قائم منذ 40 سنة مع دعم سورية. وبين طرف لبناني يقول انه يكفي ان يتحمل لبنان بمفرده عبء النزاع العربي – الإسرائيلي، كون الدول الأخرى إما في حال سلام مع إسرائيل أو أنها لم تفتح جبهتها للحرب مع إسرائيل. وهذا الانشقاق له أبعاد سياسية ومذهبية وأيديولوجية والمحكمة الدولية جزء منه.
عن التغييرات في تونس والأحداث في مصر واليمن، يقول غسان سلامة: «المدخل لما يحدث مشترك في كل من تونس ومصر واليمن والأردن وغيرها من الدول، لكن المخارج ستكون مختلفة.
«المدخل هو الآتي: ما حصل في السنوات العشرين الماضية هو ان بعد سقوط جدار برلين وبعد موجة الديموقراطية غير المسبوقة في العالم، للمرة الأولى في تاريخ البشرية، أصبح اكثر من نصف سكان الكرة الأرضية يعيشون في ظل أنظمة ديموقراطية. وجاءت الثورة المعلوماتية لتسهل حرية الأفكار والمعلومات. ويبدو أن الأنظمة العربية مهما كان توجهها السياسي فهمت انها عاجزة عن مواجهة ثورة الاتصالات، وبالتالي قبلت بأن تتراجع قدراتها الرقابية، وأن تسمح بالإنترنت والتلفزيونات الفضائية والفيسبوك وغيرها لأنها عاجزة عن وقفها. سبب العجز أن الأنظمة بحاجة إليها بهدف تحقيق الاستثمارات المالية الخارجية، هناك حاجة للانفتاح الاقتصادي الذي يحتّم ان تقبل الأنظمة بمستوى معين من الحريات. وما يحصل هو أن هذه الأنظمة قبلت بقدر من الانفتاح على الثورة المعلوماتية فأصبحت الديموقراطية، بمعنى حرية التعبير والتفكير، في العقدين الماضيين، أفضل بكثير مما كانت عليه، ليس لأن الأنظمة تغيرت، بل لأنها عجزت عن صد هذه الثورة.
الديموقراطية، كحريات، كانت في تحسن في السنوات العشرين الماضية، لكن، الديموقراطية كتداول سلمي للسلطة شهدت، في المقابل، تراجعاً هائلاً. وما حصل أن الأنظمة التي فقدت قدرتها على ضبط المعلومات والأفكار قررت ان تستولي على جزء كبير من الثروة الوطنية، بمعنى انها قبلت بالانفتاح الاقتصادي شرط ان تتمكن السلطات الحاكمة من الحصول على حصة الأسد من عمليات بناء الثروة الجديدة بعد الانفتاح الاقتصادي. وما حصل ان هذه السلطات قررت ان الدولة ملك لها، وبالتالي تعود إليها وحدها مداخيل الدولة وسلطتها وجاهها.
ولنلتفت الى طريقة حياة الحكام. إذا عدنا الى ستينات عبدالناصر وبورقيبة وبومدين فهؤلاء لم يكونوا ديموقراطيين على الإطلاق. لكن حياتهم كانت زاهدة بسيطة، يسكنون في شقق متواضعة ولا يعتبرون الدولة ملكهم. لم يورّثوا أبناءهم ولم يحترموا حقوق الإنسان لكنهم لم يتملكوا الدولة. أما الذين جاؤوا الى الحكم في العقدين الماضيين فتملّكوا الدولة، والمظهر الأول لذلك هو حياتهم المرفّهة جداً. وبرزت ظاهرة لم تكن قائمة في الديكتاتوريات العربية في الستينات هي ظاهرة التوريث. عبدالناصر لم يورث ابنه لكن مبارك حاول. السلال لم يورث ابنه لكن علي عبدالله صالح حاول. القذافي أيضاً.
هناك آلاف، ومئات في بلد مثل تونس يملكون بين 20 و30 الى 40 في المئة من الثروة الوطنية. هذا الانحراف الى تملك الدولة، يعتبرها منبعاً لمداخيل هائلة للشخص وللعائلة وللمقربين. لكل هذه الأسباب تحصل الانتفاضات في العالم العربي، وهي في جوهرها انتفاضات أخلاقية وليست سياسية، هدفها تحرير الدولة من الذين اعتبروها ملكاً لهم، وإعادة اعتبارها طرفاً محايداً يخص الشعب بقدر ما يخص السلطات. وليست ملكاً لمن يحكم البلد.
وبالتالي هي انتفاضات ضد التوريث والاستئثار بالثروة ضد الفخامة والثراء الفاحش الذي يتميز به حكام اليوم.
انحسار منهجي
وعن دور الغرب في ذلك يقول سلامة: اننا نعيش مرحلة انحسار منهجي في نفوذ الغرب في المنطقة، وهذا بدأ منذ زمن. بدأ اولاً بسبب عجزه عن تنفيذ المشروع الأول الذي يطالبه به العرب وهو حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً. وثانياً بنمو النفوذ الآسيوي في الساحة الدولية. عدت قبل ايام من آسيا ورأيت بأم العين كيف يصنع المستقبل في الصين وكوريا الجنوبية وغيرها. نفوذ الغرب يضعُف امام سلطات لا تتأثر بالغرب وإن لم تكن تعاديه، فتركيا مثلاً، ابتعدت عن الغرب ونفوذه فيها ينحسر. ما سرّع هذا الانحسار عهد جورج دبليو بوش الذي أظهر امام الملأ ان عظمة الجيش الأميركي لم تتمكن من مواجهة 15 الى 20 ألف منتفض عراقي ولم تحل مشكلة النووي الإيراني، كما لم تتمكن من صنع سلام في الشرق الأوسط. إن العجز الغربي يدفع الى القول: ان دور الغرب هامشي في بقاء هذه السلطات وهامشي في زعزعتها وسيكون هامشياً الى حد كبير في بناء التركيبة الجديدة.
أعتقد أن ما نراه هو عودة السلطات الى محلّيتها تدريجاً والغرب يحتار الآن بين السياسة التبشيرية وبين مصالحه المباشرة باستقرار حلفائه وهو مرتبك بسبب حيرته هذه، ولأنه تأخر كثيراً في وعي حاجة شرائح واسعة من المجتمعات العربية الى إعادة النظر في تملك السلطات القائمة الثروة الوطنية. ففي الحالة التونسية كان دور الغرب ضعيفاً للغاية، والآن يتحدثون عن مصر ويدفعون الى تغيير سريع في سلطتها. لكن دورهم كان في تونس ضعيفاً في فهم هشاشتها، وفي إدارة الانتفاضة كما في البحث عن المخارج الممكنة. لذلك، أعتقد أننا سنمر تدريجاً نحو تكريس الانحسار الغربي الذي ورثه باراك أوباما والقيادات الغربية من عهد بوش الذي سرّع هذا الانحسار بسبب سوء اختيار الأهداف في تنفيذ عملياته».
وعن المخارج في الدول العربية يقول: «في السنوات الخمسين الماضية كانت تأتي موجة معينة نظن انها ستعم العالم العربي. فمثلاً، في الخمسينات، كانت موجة إنهاء الملكيات، وكم قرأت في صغري انه لن تبقى ملكية في العالم العربي لكن ما شهدناه ان عدداً من الأنظمة الملكية بقي وعدداً من الأنظمة الجمهورية تحول الى أنظمة ملكية. ثم سمعنا ان الاشتراكية تعم كل المنطقة لكن ذلك لم يحدث، بل ان عدداً من الدول لم يدخل في النظام الاشتراكي. ثم جاءت الموجة الإسلامية وقيل انها ستجعل كل المنطقة العربية خضراء (باللون الإسلامي)، لكن هذا لم يحصل لأسباب كثيرة منها ضعف البرامج الإسلامية وقياداتها. ما نتعلمه من النصف الثاني للقرن المنصرم ان المنطقة كانت دائماً فسيفساء سياسية، ملكيات وجمهوريات، لذلك فالموجة الحالية التي تنطلق من مدخل واحد نسميه المدخل الأخلاقي ستؤدي وفق الظروف المحلية لكل بلد الى مخارج مختلفة.
ما شهدناه في تونس هو عملية انتقال نسبية للسلطة. حصل عدد من الأخطاء: محمد الغنوشي قام بكل ما كان يجب لكنه كان دائماً متأخراً يومين أو ثلاثة. لو استقال من الحزب والحكومة قبل تأليف الحكومة الجديدة لكان تجنّب مشكلة. الآن من المرجح ان تسير تونس نحو مخرج مقبول وسلمي.
الجيش والمجتمع في مصر
المخرج المصري مختلف بالضرورة، أولاً، لأن دور الجيش في المجتمع والاقتصاد كبير جداً، وثانياً لأن موقع مصر استراتيجي بسبب إسرائيل وعدد من الأمور الأخرى. وبالتالي ستكون هناك تدخلات خارجية اكثر مما شهدت تونس.
المخرج الذي نشهده اليوم في اليمن مختلف جوهرياً: هناك عملية استباقية لعلي عبدالله صالح الذي أعلن انه اجّل الانتخابات لكنه لن يترشح لولاية جديدة ولن يقبل بتوريث ابنه. وما حصل في الأردن هو التخلي عن رئيس حكومة مرتبط بأوساط المال والإتيان برجل كان يعمل في مجال الأمن ولكن لديه صفة الابتعاد عن الأعمال. وللمناسبة فإن معظم الانتفاضات لا يعتبر أن الأمن أو الجيش عدوه الأول بل المنتفعون، وهذا ما نشهده في مصر وفي أكثر من مكان، لذلك أقول بوجود بعد أخلاقي قوي جداً. لأن هدف الانتفاضات الأول هو المنتفع وليس ضابط الجيش أو الشرطة. وسنرى مخارج مختلفة: هناك رجال دولة سينهارون بسرعة مثل بن علي، وهناك من يحاول المقاومة أو الحد من الخسائر كما رأينا في اليمن أو في الأردن، وهناك من يقدم على ردود فعل مختلفة. وبعد سنة أو سنتين سنرى ان هذه الموجة فعلت فعلها في معظم السياسات العربية وأدت وفق الظروف المحلية الى مخارج مختلفة ومستويات متفاوتة من الديموقراطية».
وعما إذا كان يرى لعمرو موسى دوراً في مصر قال: «أعتقد أن من السابق لأوانه القول، أتمنى ان يلعب المدنيون المصريون دوراً أكبر في عملية الانتقال في مصر، عمرو موسى أو غيره، لأن التجربة التركية مهمة في هذا المجال، فإذا أردنا المحافظة على الجيش للدفاع عن الوطن هناك حاجة لإخراجه من النزاع السياسي، وهذا أحد الأمثلة الكبيرة للتجربة التركية. وأعتقد ان القيادة المدنية التركية تمكنت في السنوات الأخيرة من إعادة الجيش الى دوره الأساسي.
الجيش المصري كالجيش التركي لديه نشاط في المجال المدني، وإحدى الوسائل لإخراج الجيش المصري من النزاع السياسي ان يسلم رئيس مجلس القضاء او رئيس المحكمة الدستورية أو رئيس مجلس الشورى لفترة انتقالية وتحدد هذه المرحلة لبضعة أشهر (ثلاثة أو أربعة) يتم خلالها تعديل الدستور لإتاحة الفرصة للناس ان يتمكنوا من الترشح والطعن بالتزوير الكبير الذي حصل في الانتخابات الأخيرة».
وعما اذا كان يعتبر أن الجزائر وليبيا وسورية على وشك الاقتراب من مثل هذه الأحداث قال: «أعتقد انك تسمين أنظمة تقدمية لديها قدر من المناعة لأنها تعتبر نفسها أنظمة تقدمية، لكن ما يحصل اليوم لا يفرّق بين التقدمي وغيره. انه انتفاضة جوهرها أخلاقي ضد الإثراء غير المشروع للسلطات الحاكمة. وبما ان هذا الإثراء موجود في كل الأنظمة العربية فلا يمكن الاستثناء من الانتفاضة الحالية. لو كانت المسألة سياسية، ربما كانت حصلت في دول معينة لا في غيرها، لكن الجوهر الأخلاقي لهذه الانتفاضة بإمكانه ان يصيب أي دولة.
ما يحصل حالياً وينبغي إعطاؤه اهتماماً كبيراً، ان انكسار السلطات القائمة لم يحصل بيد الأحزاب الإسلامية، وبالتالي علينا التنبّه الى ان المجتمعات العربية شيئاً آخر غير الطرفين اللذين يهدد بهما منذ عقود أي: اما الحكم القائم أو الإسلاميون، فهذا غير صحيح. ما نراه ان «الثورات الإسلامية» في هذه الدول لاحقة بثورة الشباب. الحركات الإسلامية ليس لديها وجود ملموس لدى هؤلاء الشباب بعدما أمضت عقوداً طويلة في التنظيم السري، وبالتالي قد تكون في نهاية المطاف أقوى مما هي في أول المطاف. لكننا اليوم في أول المطاف ولا بد أن هذه الحركات أخذت علماً بأن المجتمع الحي في بلدانها لا يسير وراءها، بل وراء بناء سلطة أخلاقية لا يعتبر أن السلطات القائمة تحوز عليها كما لا يعتبر ان التيارات الإسلامية تعمل لتحقيقها.
إيران أيضاً
وتابع سلامة رداً على سؤال حول احتمال حصول مثل هذه الأحداث في إيران: «بالتأكيد أن المجتمع الإيراني حي والنساء يلعبن فيه دوراً قوياً، وهو مجتمع مسيّس ولديه ملاحظات كبيرة على أداء النظام الحاكم، ليس فقط على أحمدي نجاد ولكن على عموم النظام، ولديه حتى ملاحظات على نظام المرشد حول سيطرة الملالي على السلطة، وله تحفظات على الحريات وعلى الشرطة الأخلاقية المفروضة، وبالتالي فإن ايران ليست استثناء بل هي الى حد كبير مصدر إلهام.
ما حصل في الانتخابات الأخيرة في إيران من نزول الناس الى الشارع واعتراضهم على النتائج لا بد انه أثّر في ذهن الناس بأن المجتمع الإيراني كان متحركاً في السنة الماضية، فيما المجتمعات العربية خاملة، ما نراه اليوم هو أن نوعاً شبيهاً من التحرك بدأنا نلمسه في الدول العربية ولا أعتقد ان نوعية النظام، اشتراكياً او تقدمياً أو رأسمالياًة، مهم، الأساس ان شرائح واسعة من المجتمع كان الأفق مسدوداً في وجهها، وهذا الأفق تفتحه بأيديها فلا يهمها لون السلطات الحاكمة».
جوهر الخلاف اللبناني
وعما حدث في لبنان من تغيير الأكثرية والحكومة قال: «لبنان لا ينتمي الى ما حصل في هذه الدول العربية (تونس ومصر واليمن) فقد شهد موجات شعبية سابقة في 14 آذار و8 آذار أي انه شهد انقساماً أدى بزعامات الطرفين الى إنزال جماهيرها الى الشارع. وبالتالي فإنه يسير وفق جدولة مختلفة. الانقسام قائم. ما حصل انه لأكثر من مرة في السنتين الماضيتين تم الضغط بوسائل مختلفة على فئات كانت من الأكثرية النيابية وحمل هذا الضغط بعض هذه الفئات الى تغيير موقفه. هذا الانتقال كوّن الأكثرية الجديدة بمجموعة قليلة لا تزيد عن 10 اشخاص.
الضغط كانت له أبعاد أمنية لا سيما في 7 أيار 2008، وبالتالي لم يكن ما حدث جزءاً من اللعبة السياسية التقليدية لكنه أدى الى نتائج في اللعبة السياسية، الوسائل التي استُعملت غير قانونية وغير سياسية لكن نتيجتها سياسية. انتقلت الأكثرية النيابية من مكان الى آخر. وبانتقالها فإن لبنان أمام وضع جديد: الظاهر فيه أن حكومة سعد الحريري انتهت وبدأت حكومة نجيب ميقاتي. لكن هذا هو الظاهر، وما هو أعمق انتقال توجه لبنان السياسي في المنطقة. هذا التغير في التوجه نعرف انه حاصل أمامنا لكننا اليوم، قبل تأليف الحكومة وقبل ان نقرأ بيانها الوزاري... لا نعلم تماماً المدى الذي سيذهب إليه هذا التغير في التوجه.
جوهر الخلاف في لبنان ان هناك من يقول ان جنوب لبنان يجب ان يبقى حياً لمواجهة إسرائيل باسم مجموعة العرب طالما ان الحل للنزاع العربي – الإسرائيلي لم يتم. وهذا قائم منذ 40 سنةً منذ دخول حركة «فتح» الى منطقة العرقوب عام 1969، ووجدنا وجوهاً عدة له فلسطينية ثم حزب إلهية... تدعمها سورية. ومن جانب آخر هناك طـــرف لـــبناني يقول انه يكفي لبنان أن يتحمّل بمفرده عبء النزاع العربي – الإسرائيلي، وبما ان الدول الأخرى، إما وضعت سلاماً مع إسرائيل أو لم تفتح جبهتها امام الحرب مع إسرائيل، فلماذا على لبنان ان يتحمّل بمفرده تبعات النزاع العربي – الإسرائيلي؟
هذا انشقاق حقيقي في الرأي له أبعاد سياسية ومذهبية وأيديولوجية. والمحكمة الدولية جزء من هذا الخلاف، لكنه قائم منذ زمن طويل، يعني أن المفردات التي نسمعها اليوم سمعناها في الستينات والسبعينات، كانت تطبق على الفلسطينيين، واليوم نسمعها من حزب الله، مثل «التنسيق بين المقاومة والجيش»... الموضوع هو الخلاف، هل يقبل هذا الدور للبنان او يُراد له دور آخر. الخلاف أخذ تسميات مختلفة عبر التاريخ: الحفاظ على منظمة التحرير، الحفاظ على سلاح المقاومة وصولاً الى مشكلة المحكمة الدولية. ما يفاقم هذا الخلاف هو الميل الدائم للطبقة السياسية اللبنانية بمختلف توجهها الى الاســـتقواء بالخارج. بمعــــنى انها تفضل ان يدعمها الخارج كفئة على ان تتوصل الى تفاهم داخلي. هذا الأمر عانى منه اللبنانيون خلال 40 سنةً وما زالوا. لذلك نحن في فصل جديد من مأساة عمرها 40 سنةً. عندما أقول حصل تغيير في التوجه فأحد أشكاله ان يتحدث الرئيس السوري بوضوح في صحيفة «وول ستريت جورنال» عن كيف يجب ان تكون الحكومة اللبنانية. هذا يشير ليس فقط إلى تغيير شخص في الحكومة، إنه تغيّر في التوجه السياسي الإقليمي ستكون له انعكاسات على المحكمة الدولية وعلى سياسة لبنان الخارجية وعلى الوضع الأمني في لبنان وعلى عقيدة الجيش اللبناني وعلى عدد كبير من الأمور والمواقف اللبنانية في الخلافات العربية – العربية، هناك انعكاسات سنراها تدريجاً. والسؤال اليوم الى أي مدى سيذهب هذا التغيّر؟».
وعن حديث الرئيس ميقاتي إلى «فيغارو» انه لم يلتزم لحزب الله بأي شرط، علّق قائلاً: «هناك أكثرية سنراها في مجلس الوزراء وأكثرية جديدة في مجلس النواب، وبالتالي هي التي ستقرر، بمعنى ان السلطة الحقيقية في لبنان ليست داخل مؤسسات الدولة، فمراكز النفوذ الحقيقية هي خارج إطار الدولة، موجودة عند السيد حسن نصرالله والرئيس سعد الحريري والجنرال ميشال عون وسمير جعجع، رموز الدولة الكبار ليسوا مستقرين على قواعــــد شعــــبية هائــــلة. فالدولة هي مرآة لميزان القوى وهذا ما يحصل، والدولة ليست هي القائد للتحركات السياسية والاجتماعية، إنها مرآة لموازين القوى المحلية والإقليمية».
وعن وسطية رئيس الحكومة ميقاتي قال: «قد يكون وسطياً لكن عليه ان ينفذ ما يقتضي وجود هذه القوى، فالموضوع الأساسي حصل. إنه انقلاب ميزان القوى، وشخص رئيس الحكومة يكاد يكون أمراً ليس أساسياً. ما هو أساسي التغيّر الحقيقي الذي حصل في الشارع، والذي أدى لاحقاً الى تغيّر وجه الغالبية النيابية، وبالتالي فإن شخصية الرؤساء الثلاثة ليست هي الأمر الفاعل، هم سيحاولون ان يكونوا مرآة لميزان القوى.
لبنان يعيش أجندة مختلفة الى حد ما عن الدول العربية الأخرى، وبالتالي لا يحق للأكثرية اليوم ولا لأكثرية الأمس ان تقول ان ما حصل في مصر وغيرها يصب في ميزانها، لأن معايير التعبئة في لبنان في السنوات الماضية لم تكن اليوم ولا في الماضي وفق ما يحصل في مصر أو تونس أو اليمن، كانت معايير مذهبية وسياسية مرتبطة بالسلاح والاغتيالات والمحكمة الخاصة بلبنان».
وعن تأثير القرار الظني في لبنان قال: «لا أعرف شيئاً عنه. ليس لدي أي علم. ما نحن ذاهبون إليه على الأرجح استمرار المحكمة، ولكن من دون تعاون لبناني». عدم تعاون الدولة يؤخر المحاكم مثلما حصل في كمبوديا بعد 30 سنة من محاكمة».
وعما اذا كان تشكيل الحكومة مرتبطاً بصدور القرار الظني قال: «التشكيل مرتبط بأن تضم الحكومة أطياف مختلفة من الطبقة السياسية اللبنانية وليس فقط من الأكثرية الجديدة التي سمت ميقاتي. والتأخير سببه نوع من عرقلة لهذا التوجه ولا أعتقد المحكمة الدولية».
وعن إشاعات حول اسمه في الحكومة إذا كانت حكومة تكنوقراط قال: «أولاً، لا أنا تكنوقراط ولا أعتقد أن هناك شيئاً اسمه تكنوقراط، فأنا أتحمل مسؤولية مواقفي السياسية ولا أقبل أن أسمى بشيء غير موجود (تكنوقراط).
لقد دعاني الرئيس ميقاتي قبل ست سنوات للمشاركة في حكومته، ثم فؤاد السنيورة في حكومته الأولى، ثم سئلت قبل تشكيلة حكومة الحريري ما إذا كنت أريد ان أدخل في الحكومة وكان جوابي دائماً: لا، بالنسبة إلى الحكومة الجديدة جوابي لن يتغير. لقد كنت ضحية عملية تسوية وتشويش لم أرد عليها يوماً ولم أعرها اهتماماً.
وداع للسياسة
ومنذ خرجت من الحكومة عام 2003 قررت ألا أعود الى السياسة اللبنانية، وهذا موقفي وأعلنت عنه، لقد خرجت من السياسة اللبنانية، والسياسة ليست طريقاً باتجاه واحد. الذين يعتقدون أن من يدخل في السياسة لا يخرج منها، إما أنهم لا يعرفونها وإما لا يعرفونني. دخلت في السياسة في ظرف معين وكان ممكناً أن أقدم على بعض الأمور الإيجابية، منها إنشاء وزارة الثقافة وتنظيم قمة عربية وفرانكوفونية والمساهمة في دعم الجاليات اللبنانية في أفريقيا والإسراع في مفاوضات الشراكة مع أوروبا. قمت بهذه الأعمال في ظروف سياسية مقبولة نسبياً بين 2000 و2003، ولكن قبل استقالة حكومة الرئيس رفيق الحريري بأشـــــهر، ولدي عدد من الشهود، قلت للرئيس الحريري رحمه الله إنني لا أريد الدخول في حكومة بعد ذلك ولن أغير هذا الموقف. إن ظروف المحاصصة السياسية كما تتكرس في السنوات الأخيرة تتنافى من طموحاتي، لا أريد أن أكون من حصة أحد. وبما أن الحكومات في لبنان تتألف على أساس الحصص بالمطلق فلا أريد الدخول فيها.
|