مقالان نشرا في الآونة الأخيرة يعبّران عن حساسيتين تجاه لبنان. المقال الأول ينتفض مستنكراً «جلد الذات» الذي يراه الكاتب في النقد الدائم الموجّه الى المجتمع اللبناني، من معاملة سيئة للعاملات الأجنبيات إلى نقص في الحريات العامة وفوضى قانونية. ويختتم المدافع عن لبنان مقالته بواجب الكف عن هذا جلد، وأنه «لا يمكن دائماً رؤية النصف الفارغ من الكوب الممتلئ الى نصفه» (غسان حجار، النهار، ١٢-٠٤-٢٠١٢). وفي وجه هذا الاحتفاء «الضيعجي» بهذا البلد، يهب نقد لاذع للبنان وبيروت «البشعة» وأحوالها «السيئة جداً»، وتاريخهما المكّون من «سنيّ الحروب والنهب». وتستنتج كاتبة هذه الأوصاف أن «لا منطق في أن يكمل هذا الكيان حياته»، وإن كان يفاجئها كل صباح باستمراره واستمرار تدهوره (جنى نخال، الأخبار، ١٢-٤-٢٠١٢). يعبر هذا التناقض عن أزمتين في الخطاب السياسي اللبناني. من جهة، «وطنية» لبنانية مفلسة، لم يبق لها إلاّ تبرير أشنع ما ينتجه هذا البلد في لحظة انكفائه... تقابلها كتلة من النقد لا تُترجم إلاّ بخروج عن مجتمع لا حق له في الوجود، وفق هذه الروايات النقدية. فالنقد شكّل أحد البدائل لوطنية القوى المسيحية وخطابها الفولكلوري عن لبنان، ومحاولة لتوسيع الرواية الوطنية والتدقيق ببعض أساطيرها. هكذا «كان الولوج إلى لبنان من المدخل الاجتماعي ولوجاً نقدياً»، كما كتب أحمد بيضون عن تجربة جيل. غير أن كثيرين لم يشاركوه استنتاجه عن «لبنانية التواضع» (علم المعاني والمباني، منشورات الجامعة الأنطونية، ٢٠١١)، فبقي النقد مرادف الحرب عندهم، كون المنقود فاقداً لأي شرعية.
شكّل غياب أي منطلق اجتماعي أو نابع من معاش ما، أحد أسباب تزامن «الولوج من المدخل الاجتماعي» مع الخروج عن المجتمع السياسي لدى الكثير من النقّاد. فالبنى الاجتماعية التي على عاتقها ربط النقد بالسياسة لم تنجح في فرض منطقها على الحياة السياسية اللبنانية. ذاك أن «الطبقة» لم تنج من زواجها مع الطائفة، كما أن «الفرد» لم يفرض نفسه إلاّ معزولاً، كما في صورة المتسلّق ماكسيم شعيا وحيداً على قمة الجبال، ليس كممثل للبنان، بل كشرط للفرد في هذا المجتمع. وعلى هذا النحو، فشلت محاولة تقديم «الضحايا» كأساس لتثبيت السياسة في فترة ما بعد الحرب الأهلية، مع تطابق الضحايا والجلادين الذي يمثل حقيقة تلك الحروب. فبين مطرقة الطائفية وسندان «الأيديولوجيات الخلاصية»، لم ينج أي منطلق يربط النقد بالسياسة، كما تظهر تجربة اليسار اللبناني ومن بعدها ما يسمى بالمجتمع المدني من جهة، وتاريخ الموقف «المسيحي» ومن بعده محاولة قوى ١٤ آذار للتصدي لجنون أيديولوجية «حزب الله». أخذ الرد على غياب الركيزة الاجتماعية للنقد أشكالاً مختلفة. فمن جهة، ضُخِّمت «الطائفية» لتصبح الموحّد لمجتمع مفتت، وإن كان توحيداً سلبياً. وكان نقدها خلاصياً، ينبع من لمحات مبعثرة أو من أشباح أفراد يفترضون وجودها من أجل الحفاظ على حدٍ أدنى من العقلانية. أما الرد الآخر، فكان على شكل الاحتفاء بـ «أبطال مغدورين»، كشربل نحاس وزياد بارود ومن قبلهما اميل بيطار والياس سابا، تضحيتهم بمثابة التشديد على استحالة ترجمة النقد إلى فعل. أما الرد الأخير، فكان دوماً «الإغراء القمعي» الذي يأخذ شكل «العسكري الإصلاحي»، والمثل الأول فؤاد شهاب، الذي يعوض عن فقدان الركيزة الاجتماعية بقوة المؤسسة العسكرية. وبين الخروج من السياسة من خلال الطائفية أو التضحية أو العسكر، بقي النقد غير قادر على البقاء في المجتمع، وبقيت ترجمة «لبنانية التواضع» إلى موقف سياسي مستحيلة. إذا كانت «لبنانية التواضع» إشارة الى تواضع لبناني غالباً ما اختفى لمصلحة عجرفة وفراغ، فإنها أيضاً إشارة الى تواضع النقد، الذي غالباً ما استعان بسهولة الخلاصية للهروب من مجتمعه. وفي وجه هذين التواضعين، بُحث عن ربط الولوج إلى لبنان من المدخل الاجتماعي بولوج إلى النقد من المدخل اللبناني، أي ربط النقد بواقع سياسي، هو حتمياً غير كامل لكنه واقعنا الوحيد، واقع جيل تراثه ليس فقط اللبنانية الزائدة للبعض، بل نقدها أيضاً. ففي عالم الخرائب والأطلال هذا، انتهت جدلية النقد والمنقود، ليس فقط لأن النقد فقد فعاليته السياسية، بل لأن المنقود لم يعد موجوداً. * كاتب لبناني
|