الجمعه ٢٩ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٢٩, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
 
هل سيُعدمون الحداثة؟ - محمد الحداد

يبدو أنّ ثمة قراراً بإعدام كلمة حداثة وسحبها نهائياً من المعجم المصطلحي المتداول. هذا ما بدأت أشعر به من خلال محاضرات في عواصم عربية مختلفة. لاحظت أن البعض أصبح ينتقي كلماته بدقّة كي يتفادى استعمال كلمة حداثة، والبعض الآخر يهيج ويموج لمجرّد ذكر الكلمة، وكأنها الكفر البواح.
 
والأخطر من ذلك أنّ البعض يسعى إلى إقناع نفسه وغيره بأنّ الثورات العربية أعادت الإسلام إلى الشعوب بعد عقود من الضلال الحداثي، ما يعني أن الحداثة جاهلية جديدة ينبغي القطع معها. وهذه صياغة «ما بعد - ثورية» لمقولة قطبيّة (نسبة إلى سيد قطب) قديمة نعرف ما تـسـبّبت به من ويلات في المجتمعات العربية. وبقدرة قادر، أسبغت صفة الحداثة على الحكّام الذين عصفت بهم الثورات العربية رغم ما كان يحيط بهم من مئات الوعاظ ورجال الدين المتفننين في تبرير حكمهم بالمستندات الدينية، ورغم أن الثورات عليهم قامت باسم الديموقراطية التي هي جزء من مكتسبات الحداثة وتمثّل الوجه السياسي منها.
 
هذا التوجه خطير، ليس غيرة على كلمة حداثة، ولكن خشية أن يكون ذلك مقدّمة للتخلي عن روح الثورات العربية وجوهرها، وتحويل القضية السياسية إلى قضية دينية، واستـبدال اسـتبداد بآخر يـخـتلف عنه في مـسـتنداته ويعيد منه ممارساته ذاتها. فكلّ ما من شـأنه أن يـضـيّق على الحريات البشريّة استبداد، مهما كانت أشكاله ومبرراته.
 
ولا ننكر مع ذلك أنّ للخطاب الحداثي انحرافاته مثل أنّ الخطاب المقابل له أيضاً انحرافاته، مع أنّ انحرافات الحداثة كانت أقلّ سوءاً، فلم نسمع في العالم العربي عن قيام مجموعات تستند إلى الحداثة بتفجير المباني ووضع القنابل في القطارات والطائرات، واغتيال المخالفين في الرأي وترويع النساء والأقليات واستهداف المثقّفين والفنّانين. وعـمـلنا منذ فـتـرة طويـلـة على التـمييز المنهجي الصارم بين ما دعوناه بالحداثة الاستئصالية والحداثة النقدية، ولم نـقـحم هذا التـميـيز من عـدم بـل طـرحـنـاه من موقع متابعة مباحث نقد الحداثة في الفكر المعاصر، وبصفة خاصة منذ السبعينات. لكنّنا نلاحظ مع الأسف أنّ تفاعل الفكر العربي مع الفكر العالمي قد بدأ يتراجع في تلك الفترة تحديداً، ممّا جعل كثيرين، حداثيين أو تراثيين، يواصلون إلى اليوم تصوّرات قديمة ومنفصلة عن تطوّرات المسألة التي يمكن أن نوجزها في العناصر التالية:
 
أوّلاً، انتقلت الحداثة من الغرب لتصبح ظاهرة كونية، فالمشتركات الإنسانية مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والمعرفة العلمية أصبحت راسخة في المناطق الأكثر تطوّراً في العالم مثل اليابان والهند وأميركا الجنوبية وجنوب إفريقيا، وهذه ليست جزءاً من الغرب ولا تابعاً له. وبدأت نهضتها مع العرب أو بعدهم ونجحت في ما فشلنا فيه بسبب هوس الهوية الذي يفقدنا الاتزان ويجعلنا نضحّي بالحاضر والمستقبل من أجل تمثّلات عاطفية وغير تاريخية حول الماضي.

ثانياً، النزعة الاستئصالية مارسها الغرب ضد تراثه الخاص قبل أن يمارسها ضدّ الثقافات الأخرى، ثم تراجع عنها مع الثقافات الأخرى قبل أن يراجعها مع تراثه الخاص، ما يعني أنّ أكبر ضحايا الاستئصال الحداثي كان الغرب ذاته، وأنّ عملية التدمير كانت متبادلة السلبيات والإيجابيات. فقد حطّم الغرب نقاء مجتمعاتنا لكننا استفدنا منه السيارة والكومبيوتر والأسبرين، وحطّمنا نقاء مجتمعاته فلم تعد توجد اليوم مدينة غربية إلا وقد اكتسحها المهاجرون من كل الأصقاع وفرضوا فيها عاداتهم وتقاليدهم وأعادوا تقسيمها الجغرافي وفق الأصول العرقية للمهاجرين، لذلك تتصاعد حركات أقصى اليمين في الغرب.
 
ثالثا، إنّ ربط الظاهرة الحداثية بالظاهرة الاستعمارية ربط متعسف. فالتاريخ شهد موجات استعمارية لم ترتبط بالحداثة، مثل السيطرة الرومانية على جنوب المتوسط أو الحروب الصليبية، كما وجدت تجارب حداثية نشأت من رحم مقاومة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية، كما هو الشأن في اليابان وأميركا الجنوبية، ومثل الحداثة السياسية في الهند والحداثة التكنولوجية في الصين.
 
رابعاً، إنّ ربط الـحداثة بـمعـاداة الـدين يـصحّ مع الـقليـل من تجارب الحداثة ولا يصحّ مع غالبيتها، فالحداثة في اليابان والهند وأميركا الجنوبية وجنوب إفـريقـيـا وأوروبـا الشرقية قامـت في تـآلـف مـع الـدين، وكـذلـك بـعـض الـتـجـارب الواعدة في العالم الإسلامي مثل تركيا وأندونيسيا وماليزيا. والغرب ذاته بدأ حداثته بالدين من خلال الـكاهن لـوثـر والـحـركـة البروتـسـتانـتـيـة التي لم تكن نفياً للدين بل تجديداً له وتنقيحاً مـمـا لـحقه مـن أبـاطيل وخـرافات وتـقـليد أعـمى لرؤسـائه. لذلك أعـجـب بـها بعض النهـضويين العرب الذين دعوا إلى الإصلاح الديني ولم يعبأوا بتهم التكفير التي لحقتهم من الشيوخ الجامدين. وثمّة خلط متعمّد لدى بعض التـقليـديـين العرب بين معاداة الدين والدفاع عن حرية المعتقد واحترام العقائد المختلفة، وهذا موقف منافق وغريب حتى من داخل الدين الإسلامي ذاته القائم على مبدأ الحرية واحترام الاختلاف.
 
والخلاصة، إنّ الحداثة الاستئصالية انهارت فلسفياً منذ زمن طويل، وإنّ الحداثة النقدية تظلّ مشروعاً ضرورياً في العالم العربي لا تتحقّق تطلّعات مواطنيه من دونه، ومن لا يميّز بين الحداثتين فهو كمن لا يميّز بين التديّن والإرهاب باسم الدين، أي أنه يحكم على ظاهرة أصليّة من خلال انحرافات جزئية.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة