في السياسة عندما تفقد القدرة على المبادرة، تفقد القدرة على الفعل. وحال الانتظار من دون مبادرة ولا فعل، نوع من الموت السياسي. ذاك ان السياسة حركة دائمة واستشعار متواصل وبناء يومي على معطيات مستجدة. «14 آذار» اللبنانية فقدت القدرة على المبادرة، وها هو خصمها (اللبناني) يستثمر في موتها، بل إن هذا الخصم لم يعد يملك، بفعل الثورة السورية، إلا عجز خصمه ليعيش عليه. الثورة في سورية أحدثت تبدلات دراماتيكية في الوضع اللبناني. التحالف الذي أطاح «14 آذار» عبر «عراضة» القمصان السود وأتى بحكومة أكثرية جديدة، يترنح اليوم. وليد جنبلاط صار خارجه ونجيب ميقاتي يتولى حراسة إرث رفيق الحريري في السلطة، ورئيس الجمهورية ميشال سليمان يتحرك على وقع تبدل التوازنات. اما «حزب الله»، وهو الحاكم بأمره في هذا التحالف وفي مختلف مرافق الدولة، فهو اليوم مترنح بين مواقف أمينه العام الذي لم يبتعد خطوة واحدة عن النظام الضعيف في سورية، وبين الحسابات الإيرانية المستجدة. هذا المشهد لم يُولد لدى «أهل الضعف» في «14 آذار» أي رغبة في المبادرة، وهو أمر غريب حقاً. فأن تبرر هذه الجماعة رضوخها لقرار «حزب الله» اجهاض نتائج الانتخابات النيابية والاحتكام الى السلاح في صوغ الحياة السياسية، بأن مواجهة قرار الحزب غير ممكنة إلا عبر قرار مشابه بحمل السلاح وهو ما لن تفعله، فإن في قولها هذا بعض الحق. ولكن ها هو «حزب الله» يترنح اليوم، وخاصرته الإقليمية تعيش ضائقة غير مسبوقة.
التحالف الذي صاغه سلاح الحزب وأثمر حكومة صار ركيكاً ومتهاوياً، فما الذي يبرر استغراق «14 آذار» في هذا النوم العميق؟ والحق ان هذا النوم لن يُنقذ التحالف الذي صنعه السلاح، انما سيتولى ايجاد مخارج لأطرافه تساعدهم على تصريف مأزقهم المـستجد بفعـل الثورة السورية. لنتأمل مثلاً في وضع رئيس الحكومة نـجيب ميقاتي. ها هو يبتعد عن النظام السوري بهدوء اين منه الهـدوء الذي تبتعد فيه ابنة الغزالة عن أمـها. يمتعض من تصـريحات الرئيس الايراني أحمدي نجاد حـول جـزيرة أبو مـوسـى، ويـتولى بنفـسـه جـهود الإفراج عن ناشطين اعـتقلهما الأمـن اللبـناني بتـهمة كتـابة شعـارات ضد النظام في سورية، ويخوض داخل الحكومة معركة فؤاد السنيورة حول المليارات من خارج الموازنة. ونـجـيب ميـقاتي اليوم، بفعل موت «14 آذار»، هو الشخصية الأكثر اقناعاً للغرب لإدارة المرحلة، على ما قال ديبلوماسي أوروبي في بيروت. إنها هدية «14 آذار» للرجل ولـ «حزب الله»، ومن ورائهما لسورية! وما أجمل هذا اللبنان الذي لم ينضم الى الثورة على النظام الذي أخضعه على مدى أربعة عقود دامية. فلبنان اليوم كائن سياسي «ميقاتي» اذا صحت التسمية، ينأى بنفسه عن وقائع الانتفاضة السورية، فيما يتولى تصريف ضائقة نظام دمشق بخبث وصمت. تستقبل مصارف لبنانية ودائع مهرّبة من دمشق، وتعيد شركات لبنانية موضعة العقوبات الدولية، ويتولى الأمن اللبناني ضبط الناشطين السوريين اللاجئين الى لبنان، أما الإعلام اللبناني الموالي لسورية ولـ «حزب الله» فمهمته تزويد النظام في دمشق بحكايات مخترعة عن تهريب سلاح إلى المدن السورية. وكل هذا يجري فيما «14 آذار» نائمة. «ننتظر تداعي الجبهة السورية في لبنان من تلقائها»، هذا ما يردده متقاعدو «14 آذار»، ويتهمون من يحضهم على المبادرة بالمغامرة والتسرع. وينطوي هذا الفعل (الانتظار) على نوع من الطفيلية المقيمة في الوعي الـ «14 آذاري». فالسياسة بالنسبة إليهم هدية من الآخرين. في 14 آذار 2005 أهداهم اللبنانيون في سـاحة الـشـهداء انتفاضتهم على النظام السوري، وها هم اليوم ينتظرون هدية من الـسـوريين. وهـم، إذ منـعهم كسلـهم من التقـدم خـطوة واحدة لبلورة قاعدة تحرك جديدة، فقدوا القدرة على تمييز وتظهير ما يجري. لم يدركوا ان خوض ميقاتي معركة مليارات حكومة السنيورة هو جزء من مـسـاع للسطو عـلى قـواعدهـم، فقـرروا خـوض المـعركة ذاتها في مجلس النواب، وظهروا كمن يقف خلف الرجل في المواجهة. والحال ان هذه البلادة تفشّت فحوّلت أصحابها من منتظري هدية الى ضحايا جدد محتملين لما يُعد للبنان في مرحلة الاضطراب في سورية، ومرحلة الانتقال والسقوط ربما. فالحلف الإقليمي والمحلي الذي أنتج الحكومة اللبنانية ما زال يملك القدرة على المبادرة بفعل حال الانتظار العقيم الذي يعيشه الحلف المقابل. ومن يريد ان يصوغ الحياة العامة في لبنان متخيلاً فقدانه الخاصرة الاقليمية، باشر من دون شك صوغ تصوراته لمواجهة الاحتمالات. بدأ يفكر مثلاً بالمسيحيين اللبنانيين في ظل الاهتراء الذي يصيب الجسم العوني، ومن المرجح ان محاولة اغتيال سمير جعجع جاءت في هذا السياق، وباشر العمل لاختراع وريث سنّي لإرث رفيق الحريري، فتارة يوسع لميقاتي هامش تحركه في المزاج السنّي اللبناني والاقليمي، وتارة أخرى يطلق العنان للسلفية المرتجاة في طرابلس. «14 آذار» اليوم إما مختبئة في معراب خوفاً من تهديد حقيقي، وإما مهاجرة الى فرنسا، وإما في بكفيا متخبطة في مواقفها حيال ما يجري في المحيط. وفي الحالات الثلاث لا يمكن لسياسة ان تستقيم ولا لمشروع ان ينضج. اذاً سيجري تدوير الزوايا، وسنحصل في أحسن الحالات على نسخة معدلة من حكومة القمصان السود، هي نفسها تلك التي تسعى «14 آذار» الى الفوز بها. حكومة تكنوقراط برئاسة رجل المرحلة نجيب ميقاتي.
|