هل يتراجع "حزب النهضة" التونسي عن التزام كل قادته، وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي، بعدم النص على "الشريعة" كمصدر للتشريع في الدستور التونسي الجديد؟ وهل نكون عندها مع تراجع "اخواني" جديد بعد تراجع "الاخوان المسلمين" المصريين عن تعهدهم بعدم ترشيح أي منهم لانتخابات الرئاسة؟
طالعنا الأستاذ جهاد الزين بمقال عنوانه "لا لدين الدولة: هل يجرؤ الإخوان المسلمون السوريون؟" ("النهار" 3/4/2012) في محاولة منه لاستطلاع قدرة إخوان سوريا في التشبّه بزملائهم في حزب النهضة التونسي وبقبول بمبدأ "فصل الدين عن الدولة". ليست غايتنا من مقالنا هذا مناقشة بيان إخوان سوريا، إذ أنّنا لا نملك المعطيات الكافية التي تؤهّلنا لمناقشة فكرهم الذي لا يزال غامضاً لنا وللكثيرين. ما يهمّنا هنا هو مناقشة فكرة تبنّي حزب النهضة الإسلاميّ التونسيّ "عدم النص الدستوري على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع"، والاكتفاء بالفصل الأوّل من الدستور التونسيّ الذي وُضع عام 1959 والذي ينصّ على أنّ "تونس دولة مدنية، حرة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها".
وقد ارتأينا أنْ نشارك الأستاذ الزين وقرّاء صفحة "قضايا النهار" بما حصلنا عليه من معلومات مؤكّدة أتتنا من أحد الأصدقاء التونسيين، الذي كان له العديد من اللقاءات مع أركان حزب النهضة خلال شهر نيسان 2012، والذي تمكّن من الحصول على مسودة مشروع الدستور التونسيّ الذي تتمّ مناقشته حالياً داخل الحزب. وقد تبيّن لنا من هذه المسودة أنّ ما أعلنه حزب النهضة في بيانه الصادر في 26 آذار 2012 حول الإبقاء على الفصل الأوّل المذكور من الدستور التونسيّ ليس سوى ذرّ للرماد في العيون.
ففي حين أنّه يبيع التونسيين والعالم فكرة أنّه لن يمسّ بهذا الفصل، فإنّه يسعى، وفق المسودة المذكورة التي بين يدينا، إلى إدخال مبدأ الشريعة في الفصل الثاني. ويبدو أنّ هناك تيّارات فكرية مختلفة تتصارع داخل هذا الحزب من الأكثر تشدّداً إلى الأكثر تساهلاً. وهذا يبدو واضحاً من الصِيَغ الخمس المطروحة في الفصل الثاني من هذه المسودّة والتي تَرِد بالتدرّج الآتي: "1 – الشريعة الإسلامية مصدر أساسي من مصادر القانون؛ 2 – الفقه الإسلامي مصدر أساسي من مصادر القانون؛ 3 – القرآن والسنّة مصدر أساسي من مصادر القانون؛ 4 – لا يمكن سنّ أيّ قانون يتعارض مع الدين الإسلامي (ويبدو أنّ هذه الصيغة هي الأكثر تشدّداً)؛ 5 – لا يمكن سنّ أيّ قانون يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي". وبالتالي، فإنه سيتمّ اعتماد واحدة من هذه الصِيَغ في مشروع الدستور المقدّم من حزب النهضة، ما يؤكّد أنّ هذا الحزب لم يتخلَّ أبداً عن الشريعة أو ثوابتها كمصدر من مصادر التشريع. أمّا ما تمّ التصريح به فليس سوى تكتيك يبرع الإسلاميون في تونس ومصر وسوريا ولبنان وكل الدولة ذات الأغلبية المسلمة باستعماله بغية إخفاء أهدافهم الأساسية، والتي تقوم على اعتبار "الإسلام هو الحلّ" بما يقتضيه من دمج الإسلام بالدولة والشريعة الإسلامية بالقانون.
وبالعودة إلى الفصل الأوّل، صحيحٌ أنّ بيان النهضة يؤكّد الحفاظ عليه دون أيّ تعديل، غير أنّ المقطع الأخير من هذا البيان يقدّم تفسيراً مختلفاً له. فبحسب الكثيرين من العلماء الدستوريّين التونسيّين، فإن هذا الفصل صِيغَ عام 1959 بحيث يكون الإسلام دين تونس كأمة وكمجتمع وليس دين الدولة. فإذا استعدنا هذا الفصل نجد أن الضمير "ها" في عبارة "الإسلام دينها" إنّما يعود إلى تونس وليس إلى الدولة. فهذا الفصل يتضمّن التأكيد على أنّ "الشعب التونسي شعب مسلم في غالبيته الساحقة"، دون أن يعطي أية إشارة الى أنّ "الدولة التونسية إسلامية"، أو أنّ "الإسلام دين الدولة"، ولا القول بأن الشريعة الإسلامية هي "مصدر"، أو "أحد مصادر التشريع" أو "التأويل" أو "الاستلهام". غير أنّ المقطع الأخير من بيان حزب النهضة يفسّر هذا الفصل تفسيراً مناقضاً تماماً للتفسير السابق، إذ يعتبر أنّ هذا الفصل يحفظ "الهوية العربية الإسلامية للدولة التونسية [...] حيث أنّها تنصّ على أنّ الإسلام دين الدولة". بهذا يتحوّل الإسلام مع حزب النهضة من أن يكون دين الأمة والمجتمع التونسيَين [وليس للدولة التي هي مدنية لا دين لها]، إلى دينٍ للدولة.
الحقيقة، انّ هذا الأداء لحزب النهضة بقول الشيء والعمل بنقيضه ليس غريباً، خاصّة إذا تابعنا تصريحات زعيم هذا الحزب السيّد راشد الغنوشي حيث يعلن فيها أمراً ليعود ويعلن عكسه في اليوم التالي. فعند زيارته واشنطن أوائل العام الجاري لم يتردّد الغنوشي في نفي كلّ ما كان أعلنه سابقاً في منفاه اللندنيّ من تصاريح معادية للولايات المتحدة الأميركية، متفادياً الردّ على الأسئلة المحرجة حول الصراع العربيّ – الإسرائيليّ. وعندما سألته إحدى الصحافيات الأميركيات عن موقفه حيال تبوؤ يهوديّ رئاسة الجمهورية التونسية أتى جوابه بالموافقة. الأمر الذي يتناقض تماماً مع ما كان قد أعلنه في كتابه "الحريات في الدولة الإسلامية": "يمكن غير المسلمين من يهود ومسيحيّين وغيرهم الوصول إلى مراكز المسؤولية، لكنّهم لا يستطيعون تبوؤ الوظائف العليا [مثل رئاسة الجمهورية أو الوزارة وغيرها]". من ناحية أخرى، فهو قادر في الوقت عينه أن يقول إنّ الإسلام هو "مجموعة قيم" فاتحاً بذلك المجال نحو اعتماد مفهوم جديد للدين الإسلامي على أنّه مرجعية أخلاقية وقيميّة من جهة، ومن جهة أخرى بأنّ الإسلام "هو نظام شامل للحياة"، أي أنّه دين ودنيا ودولة، عقيدة ونظام، عبادة وتشريع إلخ.
إضافة إلى ذلك، فإن كلّ تصريحاته حول وضع المرأة، إن من حيث ارتداء الحجاب، أو تعددّ الزوجات، مبهمة تحمل الشيء ونقيضه، ما يدلّ على أنّ الغنوشي وبالتالي حزب النهضة، إمّا لا رؤية واضحة لديهم لتقديم أجوبة واضحة لهذه الإشكاليّات، وإمّا أنّهم يخفون مشروعهم الحقيقي بتصريحات مبهمة لا تلبث أنْ تتغيّر عندما تحين اللحظة المناسبة. أوليست هذه بالضبط منهجية الإخوان المسلمين في مصر، الذين صرّحوا والتزموا بالكثير من الأمور ثمّ ما لبثوا أن تراجعوا عنها، إن من حيث نسبة ترشّحهم إلى الانتخابات النيابية، وإن من حيث تشكيل اللجنة التأسيسية المخوّلة صوغ الدستور الجديد، أو من حيث تقديم مرشّح إخواني للإنتخابات الرئاسية؟
في اعتقادنا، واستناداً إلى تصريحات كبار مفكّري حزب النهضة، فإن المشروع الحقيقيّ لهذا الحزب لم يُعلن حتى الآن لما يتضمنّه من أمور قد تلاقي معارضة شديدة من التيار العلمانيّ في تونس. من هنا، فإن التكتيك الحالي يقوم على اعتماد "المرحليّة" في تطبيق الشريعة الإسلامية وإعلان الدولة الإسلامية. فمفكّرو النهضة يدركون أنّ الجيل الحالي من التونسيّين ليس مؤهّلاً للسير في مشروعهم الإسلاميّ بشكل كامل، من هنا فإنّ هدفهم اليوم هو السيطرة على الأجيال المقبلة من خلال وضع اليد على التعليم الابتدائيّ والمتوسط بحيث يصير إلى "فصل الآباء عن أبنائهم وبناتهم". بهذا، وخلال جيل أو جيلين يصبح المجتمع التونسيّ أكثر تقبّلاً للفكر الإسلاميّ كما يقدّمه حزب النهضة، عندها لا تعود الطروحات حول إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية تُجابه بالممانعة نفسها التي تُواجه بها الآن.
|