الأحد, 06 فبراير 2011
أياً تكن المسارات التي ستسلكها الانتفاضة المصرية في الأيام المقبلة، فقد أجهزت على شيئين: حكم الرئيس البلدَ مدى الحياة، ثم توريث حكمها للابن أو من في حكمه. علماً أن الحكم الأبدي والتوريث هما الشيء نفسه. هذا المكسب الذي غدا مضموناً الآن، بل تجاوزته الأحداث، كان قبل شهر واحد فقط يبدو أشبه بقدر تسير نحوه مصر، وربما تونس، كأنما في نومهما. المبدأ ذاته يبدو قد سقط ثقافياً وأخلاقياً، وربما يتكرس ذلك دستورياً وقانونياً في مقبلات الأيام في البلدين وغيرهما. وقد كانت أولى الثمار أن سارع الرئيس اليمني إلى إعلان أنه لن يجدد لنفسه. بل إن فكرة الحكم الرئاسي ذاتها تغدو موضع جدال بعد التغيير التونسي، ويجري تفضيل الحكم البرلماني عليها (هذا تفضيل حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي).
الإنجاز الثاني للانتفاضتين التونسية والمصرية هو الاحتجاج الشعبي الواسع بحد ذاته. لقد تحدى سكان البلدين نظامين يبدوان راسخين، فأحدثا تغييراً كبيراً في أولهما، قد يتجذر أكثر مع الأيام، وهزّا الثاني هزاً عميقاً، يرجح أن تكون له أصداء مدوية في العالم العربي، والعالم ككل، إن استكمل بانهيار النظام. وأن يبدو هذا وارداً جداً، لهو، بحد ذاته، مؤشر دال على الحركية العالية لسير الأحداث في مصر. ولا ريب في أنه سيحصن التغيير التونسي ويثبته ويضعف احتمالات الالتفاف عليه.
ينال أحد الإنجازين من «النظام»، هذا الذي قال المحتجون المصريون، بفصحى فظة، إن الشعب يريد إسقاطه، فيما يحيل الإنجاز الثاني إلى «الشعب»، هذا الذي يظهر ويحتج و «يريد»، ويتصرف طيفه الناشط، الواسع والمتنوع، بصورة أرفع، وطنياً وإنسانياً، من «النظام» بما لا يقاس. طوال عقود، كان «النظام»، أراد إسقاط «الشعب»، وقد تحقق له ما أراد، وإن ليس من دون كفاح جبار دؤوب، بما فيه قتل الناس، وبما فيه سياسة «فرق تسد»، وبما فيه شراء الضمائر.
ولعل نسب فوز رؤساء الجمهوريات في الاستفتاءات الرئاسية تصلح مقياساً لمدى نجاح النظام في إسقاط الشعب. يفوز الرئيس بما يقارب الـ99 في المئة من الأصوات. من التطورات الدالة التي سجلت في العقد الأخير أن النسبة انخفضت إلى 98 و97، بل إلى 94 في المئة، النسبة التي فاز بها زين العابدين بن علي عام 2004، أو حتى 89 في المئة، النسبة التي نالها حسني مبارك في انتخابات 2005 الرئاسية. لكن صدام حسين نال مع ذلك 100 في المئة من أصوات العراقيين عام 2002. هذا يعني أن وزن الشعب العراقي كان صفراً. أما في غير العراق فيتراوح وزن الشعب بين 1 أو 2 أو... 11 في المئة. وقد يمكن القول منذ الآن إن نسبة 11 في المئة هذه فتحت ثغرة في جدار نظام مبارك، مهدت للانتفاضة الشعبية الراهنة. اليوم يريد «الشعب» نسبة 50 في المئة. أن يكون شريكاً معترفاً به في وطنه.
والشعب هذا ليس حزباً ولا «هوية» ولا «قوماً». إنه مواطنون أفراد، متعلمون، نساء ورجال، مستقلو الضمير، يرفضون أن يعتبروا كمّاً مهملاً، ويريدون أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم. وإنما لذلك قد يمكن وصف ثورتي مصر وتونس بأنهما ثورتا التحرر المواطني، أو ثورتا الكرامة، كرامة المواطنين الأفراد، وليس كرامة القوم أو الوطن. تقرير المصير الفردي وليس القومي.
عرفت بعض بلداننا ثورات وطنية، أبرزها الثورة الجزائرية، من أجل الكرامة الوطنية. لكن انتهى الأمر بتفريغ هذه من محتواها، على نحو تسجل مصر بالذات، تجلّيه الأقصى والأقسى، عبر عزل المواطنين وترهيبهم، والحجر السياسي على الشعب. الثورتان المصرية والتونسية تدشنان عهد التحرر المواطني، هذا الذي يمتنع أن تبقى البلدان العربية بمنأى عنه. أياً تكن المسارات المتعرجة لهاتين الثورتين، وأياً تكن تعثراتهما وأطوارهما، فقد فتحتا الطريق أمام تحول أساسي في العلاقة بين «الشعب» و «النظام» في بلداننا. لا يتحتم أن تتحول العلاقة بصورة ثورية، لكن يجازف كل «نظام» لا يستوعب هذا الدرس بجلب السقوط على نفسه. هذا لأن التحرر المواطني إنساني وتقدمي، متفوق بصورة قطعية على الأوضاع اللاإنسانية القائمة في مجمل بلداننا اليوم. زمن الـ99 في المئة ينتهي. وكذلك الـ90 في المئة. ومعه الحكم المؤبد. والتوريث. ومجمل الآليات اللاإنسانية لحكم البلدان ونزع كرامة البشر فيها.
نتكلم على البلدان العربية لأنه يظهر، بعد كل شيء وعلى رغم كل شيء، أنها تشكل بيئة متفاعلة ومتبادلة التأثير، بدرجة كان يصعب تقديرها قبل التحولات التونسية والمصرية. وتفاعل البيئة هذه مركّب بصورة ظاهرة. أو لنقل إنها تتوزع هي ذاتها بين قطبي «الشعب» و «النظام». ليس فقط أن لا أحداً من عناصر القطب الأخير مبتهج بانتفاضتي تونس ومصر، بل إن الفوارق بين العناصر هنا، أي «الأنظمة»، لم تبدُ يوماً أقرب إلى الانعدام مما هي اليوم حيال الانتفاضتين. هذا يقول الكثير عن الشعارات واليافطات والعناوين الأيديولوجية التي تفضل الأنظمة انتحالها لنفسها. في العلاقة بين «النظام» و «الشعب» لا فرق بين الجميع. أو لنقل إن انقسام «النظام العربي» مغاير هنا تماماً لانقساماته الظاهرية المعتادة التي تقف عندها وتحولها إلى حقائق نهائية منابرُ أيديولوجية وإعلامية متنازعة، متماثلة في النهاية. الانقسام هنا يضع عناصر قطب «النظام» في مقابل عناصر قطب «الشعب». الأولون أكثر تقارباً بكثير من الأخيرين، على رغم كل مظاهر الخصومة.
وبقدر ما يمكن الاستدلال عليه، ظهر تفاعل قطب «الشعب» إيجاباً حيال تونس ومصر، ويبلغ حد التماهي. لكنه ليس تماهياً «قومياً»، وإنما هو مواطني، يتصل بتجارب متماثلة ومطالب متماثلة، تسهّل اللغة العربية تداولها بين البلدان. لذلك فالتماهي هذا أقوى في بلدان تقارب بنيتها الاجتماعية ومستوى الدخل فيها ونمط ممارسة السلطة نظيراتها في تونس ومصر منه في بلدان أخرى.
على أية حال، من المبكر الحسم في هذا الشأن وفي شؤون أخرى فكرية وسياسية كثيرة تثيرها التفجرات الاجتماعية الجارية. لكنْ هناك سؤال يفرض نفسه: هل من الوارد أن يتمكن قطب «النظام» من هزيمة قطب «الشعب»، وإحباط مطالبه المواطنية؟ كل شيء مرهون بمصير الانتفاضة المصرية التي يُكتب هذا المقال بينما «النظام» يستنفر غرائزه المظلمة كلها ضدها. الصراع هناك، في «ميدان التحرير». ومحصلته ستحدد أشياء كثيرة في العالم العربي، وفي العالم.
|