ليس هناك شك فى أن المشهد السياسي الراهن في مصر أصبح معقداً غاية التعقيد من ناحية، وينبىء بنشوب صراعات سياسية بالغة الحدة والعنف من ناحية أخرى.
أما تعقد المشهد فيرد أساساً إلى الاضطراب الشديد في مسيرة مرحلة الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية التي وضعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأقرتها القوى السياسية المختلفة، وإن كان بعضها حاول الانقلاب عليها بعد ذلك. وبالطبع فإن المناظرة العقيمة حول الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً كانت من بين الأسباب التي أدت إلى انقسام الرأي العام السياسي حتى بعد ظهور نتيجة الاستفتاء.
ولكن الأخطر من ذلك كله المحاولة البائسة لجماعة الإخوان المسلمين لكي تهيمن هيمنة مطلقة على مجمل النظام السياسي، ليس فقط بالسيطرة الكاملة على مجلس الشعب والشورى، بل والسعي أيضاً لإقالة حكومة "الجنزوري" وتشكيل وزارة إخوانية خالصة. وأحدث وقائع نزعة الهيمنة ترشيح الشاطر لرئاسة الجمهورية باعتباره مرشحاً أصلياً، وترشيح المرسي مرشحاً احتياطياً، وكأننا في دوري لكرة القدم!
ثم إتضحت الخطط الكاملة للهيمنة السياسية بالاستئثار بغالبية عضوية اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، والتي ألغت تشكيلها المعيب محكمة القضاء الإداري بحكم تاريخي، وضع الأمور في نصابها الصحيح، وأعاد اللجنة التأسيسية لتكون ممثلة لطوائف الشعب كله. غير أنه اذا نظرنا ملياً إلى المنطق السياسي الكامن وراء انتخابات رئاسة الجمهورية، اكتشفنا أنه منطق متهافت ومضاد للممارسات المتبعة في النظم الديموقراطية المعاصرة.
وهذه الممارسات – كما تدل على ذلك الدراسات المقارنة- تؤكد أن مرشحي الرئاسة في النظم الجمهورية يأتون أساساً من الأحزاب السياسية المختلفة يمينية كانت أو يسارية، ولا يأتون من شخصيات سياسية مستقلة، وذلك لأن الخرائط السياسية في المجتمعات الديموقراطية واضحة تمام الوضوح، وليس هناك فيها أي غموض أو التباس.
وعادة ما تصنف الاتجاهات السياسية على "متصل" Continuum، يبدأ من اليميني وينتهي باليسار مروراً بالوسط.
ويمكن أن يصنف اليميني إلى يميني رجعي أو محافظ ويميني ليبرالي، كما أنه في الوسط يمكن أن نتحدث عن يمين الوسط إذا كان يميل إلى اليمين، أو إلى يسار الوسط لو كان يتجه إلى اليسار، ويبقى أخيراً اليسار الذي قد يكون معتدلاً في صورة الاتجاه الاشتراكي، أو متطرفاً في صورة الاتجاه الشيوعي.
وهكذا فالمواطنون في ظل هذه النظم الديموقراطية لا يجدون صعوبة في اختيار المرشح الذي يتفق مع اتجاهاتهم السياسية، لأنه مرشح حزب معين معروف بتوجهاته المعلنة وببرنامجه المطروح على الرأي العام. ولكل حزب سياسي في هذه البلاد توجهات معروفة، وأهم من ذلك له سوابق تاريخية حين تولى الحكم.
وهذا الوضع الديموقراطي ليس متوافراً في المشهد السياسي المصري للأسف الشديد. وذلك لأن الأحزاب السياسية المصرية نتيجة لضعفها الشديد، لم تستطع أن تنجب شخصيات قومية قادرة على التنافس في انتخابات رئاسة الجمهورية. بل وجدنا أحزاباً سياسية ترشح شخصيات لا علاقة لها بالحزب أساساً، وهذا وضع في منتهى الشذوذ السياسي.
وهكذا أصبح الناخبون المصريون في موقف لا يحسدون عليه. فعليهم الاختيار بين المرشحين على أساس شخصية المرشح وتاريخه، وليس على أساس البرنامج الذي تقدم به. وذلك لأن كل المرشحين للرئاسة تقريباً لم يقدم أحد منهم أي برنامج متكامل.
وإذا إعتمد الناخبون على المفاضلة بين "أشخاص" المرشحين، فهناك مشكلات لصيقة بالمشهد السياسي بعد ثورة 25 يناير. فبعضهم يوصفون بأنهم "فلول" بمعنى أنهم كانوا من أركان النظام السابق من امثال عمرو موسى وأحمد شفيق وعمر سليمان.
وإن كان هذا الوصف – في نظر بعض الدوائر السياسية - لا ينطبق على عمرو موسى إلا قليلاً، لأنه يتمتع بشعبية جماهيرية مؤكدة، بحكم ممارساته السابقة كوزير للخارجية كانت له مبادرات تتجاوز إلى حد ما ممارسات النظام السابق.
غير أن هناك مرشحين آخرين لا يعرف عنهم الناخبون شيئاً إلا بعض الأوصاف الغامضة التي لا تعني شيئاً محدداً، وخصوصاً فئة المرشحين الإسلاميين. وذلك لأن السؤال الرئيسي هنا ماذا تعني كلمة "إسلامي" على وجه الدقة.
وهل التوجهات الإسلامية لكل من عبد المنعم أبو الفتوح وسليم العوا وحازم أبو إسماعيل وخيرت الشاطر ومحمد المرسي وصفوت حجازي وغيرهم متماثلة أم هي مختلفة؟ وما هي نواحي الاختلاف وما هي أبعاد الاختلاف؟ أسئلة بالغة الأهمية ليس هناك أي إجابة قاطعة بشأنها.
وحين يصرح مرشح مثل الدكتور العوا أنه إذا أنتخب رئيساً ولم يطبق الشريعة الإسلامية فإن الله سيحاسبه يوم القيامة، ماذا يعني هنا تطبيق الشريعة؟
وعلى المنوال نفسه حين يصرح خيرت الشاطر أن مشروع النهضة يقدم على أساس التوجه الإسلامي، لا نستطيع أن نفهم أي شيء من هذا الكلام. لسبب بسيط مؤداه أن تأويلات النصوص الإسلامية، وسواء كانت آيات قرآنية أو أحاديث نبوية شريفة متعددة غاية التعدد، بل هي أيضاً متنوعة. ففيها تأويلات متطرفة غاية التطرف كانت أساساً للإرهاب الذي قامت به من قبل "الجماعة الإسلامية" وجماعة "الجهاد"، وفيها تأويلات معتدلة مثل التأويلات التي تبنتها جماعة الإخوان المسلمين بعد أن تخلت عن الجهاز السري التابع لها. فأي توجه إسلامي ذلك الذي يتبناه المرشحون الإسلاميون؟
كل هذه الأسئلة تعود إلى أن انتخابات الرئاسة الجمهورية في مصر تجري للأسف الشديد بحكم الوضع الاستثنائي السياسي في مصر ضد الممارسات السياسية المتبعة في النظم الديموقراطية، والتي عمادها الاختيار على أساس مرشحي الأحزاب السياسية صاحبة البرامج المعلنة، وليس على أساس الشخصيات المعروفة التي لا برامج لها على الإطلاق، أو الشخصيات المجهولة التي تقدمت للترشح وهي غير مؤهلة لشغل المنصب الرفيع.
مشهد سياسي مرتبك، وأوضاع ديموقراطية عبثية، وتوترات حزبية لا حدود لها وأحزاب حصلت على الغالبية في الانتخابات النيابية، ولكنها لم ترق الى مستوى الممارسة الديموقراطية المتحضرة التي لا احتكار فيها للعمل السياسي ولا استئثار بعملية صنع القرار.
|