أنتجت الثورات العربية، وبخاصة السورية منها، لغة صورية، قاموسها مؤلف من آلاف اللقطات المصورة على هواتف نقّالة لتجمعات وتظاهرات وقتل وقمع، وجملها كناية عن تسلسل لمحات عن تلك المشاهد تعبر عن مزاج الثورة وتقلّباتها. وعوضت الثورات عن افتقارها «الفني» بابتكار أسلوب جديد في التعبير قد يرقى إلى مثابة لغة، أصبحت المتكلّم الوحيد أو المعبر الوحيد عن الثورة كفعل جماعي.
في موازاة تلك اللغة الجديدة، العنيفة والحيوية في آن، أنتج لبنان في الآونة الأخيرة عدداً من الصور، أقرب إلى الأفلام «المستقبلية» أو إلى نوع من «اليوتوبيا المعكوسة»، التقطت حالة العفونة المعمّمة التي أصابت هذا البلد. بدأ مسلسل الصور هذا مع تلوّن نهر بيروت بالأحمر جراء التفريغ الدوري لمواد صناعية فيه. وحول احمرار النهر، برزت خريطة جديدة من العفن، وزّعت صور الجثث الفاسدة على المناطق اللبنانية، من لحوم في بيروت إلى دجاج في بعلبك وصولاً إلى أسماك في راشيا. وامتدت خريطة أخرى من الاضمحلال فوق جغرافيا التعفّن هذه، مكوّناتها مبانٍ قديمة، تنهار على رأس أصحابها. فمن بيروت إلى برج حمود وصولاً إلى طبرجا، صور عن عمارات جديدة قديمة، تنهار من دون سبب، جارفة في طريقها لبنانيين وأجانب، البعض منهم يُترك تحت الركام لانتمائه إلى جنسيات بعيدة. وتزامناً مع حالة النتانة المعمارية، وعفونة النظام الاجتماعي، أصبحت تتوالد الإضرابات والاعتصامات الواحد تلو الآخر، من المحامين والعاملين في المستشفيات الخاصة وأساتذة التعليم الثانوي الرسمي والعاملين في قطاع النفط وصولاً إلى اهالي جل الديب والمنصورية وموظفي الكفاءات.
وتحت هذا الاضمحلال، صور عفونة أخرى، بدأت مع عنف كترمايا لتصبح صرخة ضحايا كل جريمة، صغيرة كانت أم كبيرة، أضافت إلى العنف السياسي عنفاً قروسطياً أهلياً. وفوق هذه الخرائب، ثمة تلفزيون لم يعد يتابعه أحد، يبث صوراً لزعيم يخرج دورياً ليوبّخ مشاهديه ويذكرهم بأن للعفونة أشكالاً قدسية أيضاً.
في مواجهة صور الثورات العربية، التي على رغم كل التباسها تبقى صوراً تعبر عن حيوية ما، أنتج لبنان صور تعفّن وخرائب وركام، تعبر عن الاعتياد على الموت البطيء الذي أصبح مرادف هذا البلد. وإذا كان لكل حقبة تاريخية رمزها المكاني، كالأسواق التجارية لفترة الإعمار أو خطوط التماس للحرب الأهلية، فهذا الحاضر ملخص بمنطقة الكرنتينا كما صورها نديم مشلاوي في فيلمه الوثائقي «القطاع صفر». فصور التعفّن المشار إليها، من تلوث نهر إلى جثث حيوانات وصولاً إلى مبان منهارة أو مجموعات ذبيحة، محفورة في هذا المكان الذي اختلط فيه المسلخ بالصناعة بالقتل والتهجير، وصولاً إلى الاضمحلال الإداري. بهذا المعنى، «حقيقة» لبنان مضغوطة في هذا المكان المهجور من البشر والمكتظ بالمعاني.
ميزة الخرائب تكمن في الالتباس والتداخل اللذين يخترقانها في تمرحل تاريخي يسلسل الماضي والحاضر والمستقبل. فعلى رغم مادية او ثبات الخرائب الظاهرة، هناك تحوّل ساكن يتخللها، وإن ببطء يخرج عن مفهوم الوقت، ليجعلها إشارة الى مستقبل ولّى أو ماض قادم. وهذا التلاعب الزمني انما برع في التقاطه المخرج من خلال تصويره، الضائع بين الصورة الثابتة والمتحركة، المركبة والعفوية. فحاضر «القطاع صفر»، كحاضر لبنان، خال من البشر، وإن كانت آثارهم في كل مكان، كما أنه خارج عن الزمن، يؤرشف مستقبلاً قد مضى.
بهذا المعنى، ينتمي الوثائقي من خلال تصويره «المستقبلي» إلى فن اليوتوبيا المعكوسة، القائم على دمج الأزمنة في فراغ الأحلام الضائعة، وهو أسلوب يصلح لتلخيص تاريخية هذا البلد.
ولكثافته الرمزية كإشارة عن الأزلي والعابر في آن، كان التعبير عن الخرائب دائماً ملتبساً. فالخرائب إشارة الى عظمة التاريخ والاحتمال الدائم لدمار الحاضر، وعن «الميلانكوليا» والمحاولة الدائمة للهروب من التاريخ، وعن حروب ودمار الماضي وتكراره الحتمي في المستقبل. وتلك المعاني المتناقضة إشارة الى استحالة القبض على الخرائب سياسياً. فهي بحد ذاتها تعبر عن اعتباطية وهشاشة أية لغة.
هكذا فـ «القطاع صفر» كناية عن بحث عن لغة أو لغات، تلتقط حالة الجمود الانحداري هذه. من هنا، الاستعانة بلغة العمارة وعلم النفس و «التشاؤم السياسي» لمحاولة تثبيت موجود هو كناية عن فناء، لا تلتقطه لغة السياسة التقليدية، بخاصة الخلاصية منها، التي تحتاج إلى أعداء يُقهرون ومستقبل يبنى وشعب يوحّد. فالخرائب فخٌ، يوهم المراقب بضرورة الذهاب إلى ما وراء الظاهر، ولكنْ ليكتشف سريعاً أن لا شيء وراء هذا الظاهر. وأزمة السياسة في لبنان، بخاصة «النقدية» منها، ملخصة في هذا الفخ الذي يقع فيه كل من يحاول إضفاء بعض المعنى على سطحية الظاهر، ليستفيق ويكتشف أنه ما زال يحلم.
الخرائب رمز لحاضر لبنان، والكرنتينا، أي دمج نيسانات إليوت وكاداريه بنيسان الـ75، ليست إلاّ مصغراً عن هذا البلد الذي يبحث عن لغة للتعبير عن فراغه. فعلى رغم محاولة الفيلم التقاط ما وراء الخرائب، بقيت الحقيقة المخيفة مهيمنة، وهي أن لا شيء وراء الكرنتينا يمكن استكشافه لكي يضفي بعض المعنى على هذا المكان، ومن خلاله على هذا البلد. ففي هذه الأرض المهجورة، من الطبيعي للأنهر أن تكون حمراء واللحم أسود والمباني منهارة والناس معلقة على أعمدة الكهرباء. فـ «مرحباً بصحراء الواقعيّ».
* كاتب لبناني |