شملت موجـة الديموقـراطيـة التي انطلقـت خـصوصـاً بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، ميل تيارات إسلامية إلى التكيف معها، حيث بدأت في طرح مسألة الديموقراطية، ومال بعضها للحديـث عن الدولة المدنـيـة، ومسـاواة المرأة. في سورية تبنـت جماعـة الإخوان المسلمين مطالب ربيع دمشق كلها. وفي تونس تبنت أكثر من ذلك ضمن جبهة 18 أكتوبر. وفي مصر أصبحت الجماعة على رأس القوى الديموقراطية.
هذا الأمر أطلق الفرح لدى بعض النخب الليبرالية واليسارية والقومية التي اعتبرت بأن تطوراً مهماً يطاول الإسلام السياسي، وأنه أصبح في صفّ القوى الديموقراطية متجاوزاً «طرحه القديم»، الذي يُعترف بأنه أصولي وماضوي. وأصبحنا نتلقى من هؤلاء تحليلات «عميقة» حول القطيعة التي تحققت، وكيف أن الإسلام السياسي ينتقل إلى الدولة المدنية والحداثة. وبالتالي يجري التشبيه بوضع أوروبا وكيف أن المسيحية تعلمنت، حيث يصبح ذلك جزءاً من «الإصلاح الديني» الذي نقل المجتمع إلى الحداثة.
ولقد دفع ذلك إلى تعزيز العلاقة مع هذه القوى، وحتى التحالف معها، من أجل تحقيق الديموقراطية والدولة المدنية. وإلى قبول صدارتها وقيادتها وحكمها. ومن ثم الترويج لـ «صورتها الجديدة»، المدنية والديموقراطية.
الثورات العربية قلبت المعادلات، وكشفت ما هو جوهري في طبيعة هذه القوى. فقد سخرت «العناية الإلهية» الثورات العربية من أجل أن تصل إلى السلطة في بعض البلدان العربية (تونس والمغرب ومصر)، على رغم أنها تعتقد بأن هذه العناية ستحملها إلى السلطة في كل البلدان العربية، وربما الإسلامية. فماذا فعلت؟
تذكروا بأنهم يحققون «رسالة إلهية»، وأن عليهم أن يقيموا الدين، وأن تكون الشريعة هي مصدرهم. وحتى أن يقيموا الخلافة كما لمّح بعضهم (الخلافة السادسة وفق التوانسة، والخلافة الإسلامية وفق المصريين). وأن يعودوا إلى تطبيق «حكم الدين». وأصبحت الديموقراطية تعني انتخاب الغالبية التي تقرر إلغاء الديموقراطية، أو تقزيمها. والدولة المدنية هي «دولة الإسلام»، بديلاً عن الدولة العسكرية. وبالتالي عدنا إلى «السلطة الدينية» التي تحاول أن تفرض ذاتها على المجتمع.
ربما كان كل ذلك مفاجئاً لليبراليين الذين روّجوا لـ «تحرر» الإسلاميين، أو سيكون مفاجئاً للذين ما زالوا يروجون لأنهم لم يقعوا تحت محك التجربة الذاتية (في سورية مثلاً)، حيث لا تكفي التجارب الأخرى. لكن كل تحليل منطقي كان يوصل إلى أن الإسلام السياسي لن يخرج من «جلده»، وسيبقى ملتزماً بـ «حكم الدين» بصرف النظر عن كل أحاديثه عن الحرية والديموقراطية، التي هو بارع في البراغماتية حين يجد ضرورة إلى ذلك. فما دام ينطلق من النص الديني سيعود إلى الفكرة المفْصل التي تكرست في الإسلام، التي هي أنه «لا اجتهاد بما فيه نص»، ونظام الحكم، والاقتصاد، والمرأة، هذه أمور فيها نص صريح.
هم الآن «أقوياء»، وبالتالي ليسوا في حاجة إلى البراغماتية، بل إلى الوضوح. بهذا أصبحوا واضحين فيما يطرحون، وهو الطرح الأساس في كل دعوتهم منذ البدء. ليظهر بأن كل ما قالوه خلال عقد من الزمن هو خطاب زائف. وأن الإخوان المسلمين لن يصبحوا شيئاً آخر لأن منطقهم يقوم على «الإسلام هو الحل» من خلال «تطبيق الشريعة». هذا هو جوهرهم، المعبّر عن المصالح التي يمثلونها، والتي بات واضحاً – وفق تصريحات الكثير من قادتهم – أنها لا تختلف عن مصالح الفئات التي حكمت قبلهم، ولهذا يؤكدون استمرار النمط الاقتصادي الذي ساد زمن بن علي وحسني مبارك، وهو النمط الذي أفضى أصلاً إلى الثورة.
وهو الأمر الذي سيجعل استمرار الثورة أمراً محتماً، والآن ضد «النظم الجديدة» التي يسيطر عليها الإسلاميون.
وإذا كان شعورها بقوتها، و «العناية الإلهية» التي حلت عليها، هما ما جعلها «تتراجع» عن كل ما طرحت خلال عقد من الزمن في مواجهة نظم استبدادية، فإن الثورات ذاتها هي التي جعلتها تصل إلى السلطة، ليس نتيجة «شعبيتها» بل نتيجة أن الولايات المتحدة وهي تعيش أزمتها، ويتراجع دورها العالمي، وأرعبتها الثورات في البلدان العربية، عملت على تدعيم نظمها القائمة لضمان مصالحها. وهذا فرض مشاركة الإسلاميين، الأمر الذي فرض «تحالفاً» يدعم وصولهم إلى السلطة كطرف متحالف مع قوى أخرى. وهي الرأسمالية المافياوية الحاكمة التي احتكرت السيطرة الاقتصادية والسياسية سابقاً، وباتت في حاجة بعد الثورات إلى قوى تدعم وجودها لكي تنقذ سلطتها. ولهذا وسّعت قاعدتها السياسية، وستوسع قاعدتها الاقتصادية من خلال القوة التي للإخوان المسلمين (ورأس المال المتداخل معهم).
بالتالي فإن الثورة التي لم تسقط النظم، بما هي نظم اقتصادية سياسية، نتيجة غياب الأحزاب السياسية التي تعبّر عن الشعب بالأساس، قادت إلى محاولة الطبقة المسيطرة (وأميركا) إعادة بناء سلطتها عبر إشراك الإسلاميين. وكان يجب أن يحكموا وفق رؤيتهم وانطلاقاً من أنهم الممثل للشعب، على رغم أن مصالحهم هي مصالح الطبقة المسيطرة ذاتها. لهذا عادت فكرة «الخلافة الإسلامية» لتتردد. وتعمم الوهم بأن المنطقة كلها آتية على «سيطرة إسلامية» كاسحة. وتطاير فرح غامر لدى هؤلاء بمجد يتعالى. وسلطات لا حدود لها، ونعيم.
لكن، الشعب يريد إسقاط النظام.
* كاتب سوري |