هل تتغير صورة مصر الآن؟ هل تتغير الآن صورة المصريين عن انفسهم وعن بلدهم وتاريخهم؟
هل فوجئ المصريون بأنفسهم، وفاجأوا انفسهم وتاريخهم والعالم، مثلما فعل اللبنانيون – وامتنع عليهم استكمال المفاجأة واستثمارها – قبل ست سنوات، وفعل التونسيون قبل أيام؟
جميل أن تخاف السلطات الصينية على نفسها من المفاجأة المصرية. فهي حجبت – بعد بقايا السلطة المصرية المنهارة – عن مواطنيها ما دوِّن ويدوّن عما حدث ويحدث في مصر الآن، على شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضي في تبادل الصور والكلمات. سبقتها في الحجب السلطات السورية، فحجبت عن السوريين المدوّنات التونسية التي بدأت في تغيير صورة تونس، وغيّرتها، وغيّرت صورة التونسيين عن انفسهم.
جميل أن ينتقل الخوف من الصور والكلمات الى أروقة السلطات الغاشمة وسلاطينها الذين يعيشون على خوف شعوبهم وترويعها وإذلالها، وعلى التحوط من احتمال تحطيمها جدار الخوف بالصور والكلمات، وبتبادل الصور والكلمات.
خبر خوف السلطات الصينية مما يحدث في مصر، يقلب الصورة رأساً على عقب. فأن يصير ما يحدث في بلدان عربية مخيفاً لسلطات بلد مثل الصين، يعني أن بلداناً عربية بدأت تمتلك صورة مغرية في العالم المعاصر.
هل صارت الصور الافتراضية والمتخيلة، المركّبة والهجينة والآنية، والوافدة من كل حدب وصوب، تمتلك قوة الوقائع الحية والفعل الحي في تغيير واقع حياة البشر، وتمنحهم القوة على تغيير صورهم عن أنفسهم وبلدانهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
* * *
لا أحد يعلم ماذا يخبّئ الغد والقدر لمصر. لكن صورة مصر عن نفسها وتاريخها تغيّرت الآن، أو هي قيد التغيّر. وحين يغيّر بلد صورته، ويخرج من نفسه وعلى نفسه وتاريخه، يجدد قوة الحياة في أوصاله، ويزيل جدار اليأس الكبير والمزمن. هل ما يفعله المصريون اليوم يعادل تحطيم جدار برلين عربي؟
هل انتقلت عدوى تحطيم جدار برلين الى بلدان عربية غرقت طويلاً في اليأس المديد؟ هل نخاف على مصر وصورتها الجديدة التي تولد الآن، خوفنا على لبنان وصورته التي صنعها اللبنانيون في الأمس القريب؟
حطّم اللبنانيون جدار برلينهم العربي وصنعوا لأنفسهم وبلدهم صورة جديدة في "ثورة الأرز" التي ولدت من حادثة اغتيال رفيق الحريري، ومن تاريخ طويل من الإهانات والاغتيالات السابقة. لكن
"البلطجة" السياسية والأمنية العاتية – على منوال بلطجة النظام المصري اليوم – أعادت بناء الجدار البرليني لبنة لبنة، واغتيالاً تلو اغتيال، لإسدال الستار على المحكمة الدولية.
وأمس حطّم التونسيون جدار الخوف البرليني الذي شيّده على صدورهم نظام زين العابدين بن علي البوليسي. انتظروا صورة محمد البوعزيزي محترقاً كقربان لإطلاق ثورتهم على الخوف الذي خلّفوه اليوم وراءهم.
فيما كان النظام التونسي الديكتاتوري ينهار، أطلق في تونس عصاباته الامنية "البلطجية"، علّها تخيف "ثورة الياسمين" وترعبها، وتؤجل رحيل الديكتاتور. لكن انطلاق هذه العصابات في ليل الثورة الوليدة، أطلق في الشعب حساً مدنياً تضامنياً ضاعف إصراره على خلع الديكتاتور وبقايا عصاباته.
جميل أن تعيد "ثورة الياسمين" الشبابية، المدنية، إلى تونس، الداعية الاسلامي راشد الغنوشي، الذي كان نظام بن علي يخيف به وبأمثاله العالمَ الغربي، ويبتزه، ترسيخاً لنظامه البوليسي. وجميل أن يعود الغنوشي الى بلده، ليستقبله في مطار تونس العاصمة، أنصاره الاسلاميون، إلى جانب تونسيين آخرين يرحبون به في تونس مدنية، بلا إسلام سياسي. في مصر الجديدة التي تولد من "يوم الغضب" الذي بدأ افتراضياً، وتحقق في الشوارع، بعد سنة على مقتل الشاب خالد سعيد على ايدي "بلطجية" النظام البوليسي المصري في الاسكندرية، سرعان ما انطلق "بلطجية" النظام البوليسي المصري، في أمسية يوم الغضب نفسه، علَّهم يرممون جدار الخوف المنهار. وإلا لماذا أجّل الديكتاتور إطلالته الموميائية حتى منتصف ذلك الليل المخيف، ليقول للمصريين: أرأيتم؟ أنا أو الفوضى.
لكن، في تلك الأمسية المروعة نفسها، كان الشاب عمرو سلامة (على ما نقلت أمنية خيري في "الحياة" 31 كانون الثاني الماضي) يكتب على صفحات الـ"افايس بوك" تجربته في "يوم الغضب": "أنا أنضربت ليه؟ وقتها، وأنا أتعرض للضرب المبرح، في شارع القصر العيني، وصلت الى مرحلة انني مش حاسس تماماً بالضرب، واستشهدت، وبدأت خيالات تراودني عن أهلي: هيحسّوا إيه؟ وماذا عن فيلمي إللي (الذي) ما كملتش مونتاجه، وعن الصفحة اللي هتنعملّي على فايس بوك، ويا ترى حنبقى كلنا عمرو سلامة؟ على غرار صفحة: كلنا خالد سعيد؟ والأهم تصريح وزارة الداخلية اللي حيقول اني اكيد بلعت الآي فون بتاعي".
وأنا اقرأ هذه السطور في بيروت، تذكرت احاديث سهرة طويلة في القاهرة في ناد خاص في حي غاردن سيتي. تذكرت هاني الذي كان يروي متهكما تعرضه لمطاردات هاتفية من ضابط شرطة ذكر اسمه في احد مقالاته الصحافية في بيروت. وتذكرت احاديث نادين عن السيناريو السينمائي الذي تكتبه، وعن ضيق الاماكن العامة التي يمكنها ارتيادها، وعن شعورها بأن شيئاً ما يتغيّر في القاهرة. وتذكرت وائل واحاديثه عن ان ما بدأ افتراضياً في مصر السنوات الخمس الاخيرة لن يتوقف.
تذكرت، ثم فكرت: ماذا يفعل هاني الآن في هذا الليل؟ لقد منعه قيامه مع شبان من امثاله بحراسة الحي الذي يقع فيه بيته، عن الاعتصام في ميدان التحرير. ماذا تفعل داليا بخوفها الليلي في البيت قريباً من هضبة الهرم؟ ونادين، هل صرفت غضبها وتوترها في شوارع القاهرة؟ وانت يا وائل: هل تغيّرت حقاً صورة مصر عن نفسها؟
* * *
هل بدأنا نعيش اليوم حقبة تاريخية جديدة، عنوانها تحطيم جدار برلين العربي، السياسي والثقافي؟ حقبة بدأت في مطلع القرن العشرين، وترسخت ابتداء من منتصفه ديكتاتوريات، وعاش لبنان تردداتها حروباً اهلية مدمرة؟ . |