يمكن للمتابع للشأن المصري أن يلامس ملامح ما يمكن تسميته «خطيئة سياسية أصلية» في السلوك العام لجماعة «الإخوان المسلمين» وحزبها «الحرية والعدالة» ترتكبها باسم الإسلام. فكما أن آدم أتيحـــت له فرصة الأكل من ثمار الجنة عدا واحــــدة، فإن «الإخوان المسلمين» وجدوا أنفسهم، بعد 25 كانون الثاني (يناير) 2011، في قلب المشهد السياسي المصري، فأتيح لهم لعب دور رمانة المـيزان، القادرة على ضبط إيقاع حركة النظام السياسي، إذ كانوا يستطيعون الميل إلى أي من الجهات، والتحالف مع شتـــــى التيارات، فإذا بهم يتركون الجميع من خلفهم ينتظرون، فيما هم يتوجهون نحو السلفيين، الذين يمثلون، في المشهد السياسي المصري، بتزمتهم وتناقض رؤاهم مع روح العصر، ما مثلته الشجرة المحرمة في حدائق الجنة الواسعة.
كان ممكناً لـ «الإخوان» أن يتحالفوا مع القوى المدنية، وعندها كان يمكن للبرلمان أن يصطبغ بروح الاعتدال والتحرر، على نحو تقترب معه الجماعة كثيراً من نموذج الأحزاب الديموقراطية المسيحية في الخبرة الأوروبية، بينما يصير التيار السلفي إلى موقع التيارات العنصرية في الخبرة ذاتها، كونه تعبيراً عن نزعة انغلاقية تجاوز الزمن دورها، وإن بقيت قائمة فهي قائمة فقط في سياق الكشف عن عُقد ثقافية تمُت بصلة إلى الماضي، من دون قدرة على تعطيل دفق الواقع أو التحكم بصيرورة المستقبل. مثل هذا التحالف مع القوى المدنية، كان قادراً على حفظ مكتسبات الجماعة وحزبها عبر حفاظه على توازن النظام السياسي برمته، وإبقائه قادراً على العمل لفترة طويلة من خلال الشرعية القائمة من دون خشية من تدخل الجيش، أو تحدي الشرعية الثورية، الذي سيظل قائماً لسنوات مقبلة. بل إنه يزيد قدرتهم على تطوير أنفسهم من خلال التفاعل السياسي المباشر مع شركائهم، وما يضيفه هذا وذاك من قيم وخبرات تمكنهم من تكريس إنجازاتهم، وإزالة المخاوف الداخلية والخارجية إزاءهم، والوصول بالمجتمع المصري إلى حال ثقافية متوازنة، قادرة على الاستمرار والنمو، يتصالح داخلها الإسلام مع الحداثة.
غير أن الجماعة، وفي أولى المعارك الكبرى حول المستقبل، وهي معركة الدستور، اختارت التنسيق مع السلفيين، أملاً بموقع القطب المهيمن، مانحة للتيار السلفي قبلة الحياة، إذ دفعت به إلى موقع مركزي في تحديد نسبة مشاركة أعضاء البرلمان في اختيار اللجنة التأسيسية للدستور. وبعد أن كانت الجماعة تطالب بـ 30 في المئة قامت برفعها إلى 50 في المئة بزعم مطالبة حزب «النور» السلفي بنسبة 70 في المئة. في المقابل سعت إلى تهميش باقي القوى الليبرالية، فكان الرد السريع من تلك القوى هو الانسحاب السريع والمتتالي، على نحو أعاد تأكيد ذلك الاصطفاف الأولي بين التيار الإسلامي، والتيار المدني، ودفع بمصر نحو ما حذَّر منه كثيرون وهو حال الاستقطاب الشديد التي قد تدفع التيارات المدنية إلى العمل مجدداً من خلال الشارع، والعودة إلى شرعية الميدان لمعادلة شرعية البرلمان المندفع نحو اليمين. وأدعي هنا أن حركة الميادين، إذا انطلقت في موجة ثورية ثانية، ستشهد جمهوراً أوسع من الموجة الأولى، خصوصاً من أولئك المنتمين إلى الطبقة الوسطى، الذين ربما ترددوا في المشاركة نتيجة لتحققهم النسبي في ظل النظام البائد، وقدرتهم على تحمل بعض المفاسد الاقتصادية.
لكنهم لن يكونوا قادرين على التخلي عن نمط حياتهم لمصلحة نمط حياة أكثر محافظة ورجعية عما اعتادوه، ناهيك بالطبع عن احتمالات تدخل الجيش للحفاظ على الهوية الثقافية لمصر، وعلى مكونات الدولة المدنية. فالجيش في مصر مؤسسة وطنية حديثة بامتياز، لا ترضى بمثل هذا التحول، خصوصاً أن أي انقلاب على مثل تلك الرؤى الانغلاقية سيجد آنذاك تشجيعاً كبيراً من جل القوى المدنية في مصر. الأمر الذي لا شك فيه إذاً، هو أن استمرار تحالف الجماعة مع السلفيين مدخلاً لفرض هيمنتها على الجميع، سيدفع بها وعلى نحو متزايد إلى ركن الزاوية، ويفشل تجربتها بأسرع مما تتصور هي. فالغالبية البرلمانية التي حازتها هي بمثابة فرصة عليها استغلالها وتوكيل خاص موقت، عليها حُسن استخدامه، وليست صك ملكية بحرية المصريين. فإذا لم تدرك ذلك، وهو ما يشي به جل سلوكياتها، ستفقد سريعاً شرعيتها السياسية رغم غالبيتها البرلمانية، لتصير عارية من كل تعاطف، ومن كل ثقة منحها إياها المصريون. فرغبة الهيمنة لا تعدو أن تكون الشجرة المحرّمة، وإذا كان آدم ناله الفناء بعد معاناته من الخطيئة، فإن مشروع الجماعة السياسي معرض للفشل بفعل قوة الطموح، وتجربتها معرضة للأفول بفعل غريزة التغلب. |