قد يكون مبكرا اطلاق احكام على ما ستؤول اليه التطورات الدراماتيكية التي تشهدها كل من تونس ومصر على صعيد تكوين الحكم ومصير المطالب المرفوعة في كل من البلدين، لكن ما يمكن الجزم به ان مرحلة نوعية جديدة دخلتها المنطقة العربية، على مستوى السلطات الحاكمة وعلاقتها بالشعوب العربية. فما يجري اليوم هو الابن الشرعي لمجمل سياسات الأنظمة العربية وللاحتقان المتراكم منذ عقود من الزمن، وهو احتقان كان لا بد من ان يجد تصريفه في الشارع.
ليس غريبا ان يكون انشداد الانسان العربي الى ما يحصل في مصر هذه الايام، من دون ان يقلل ذلك من اهمية الحدث التونسي. فللتاريخ، كانت مصر في الخمسينات والستينات مفتاح النهوض القومي والتحرر من الاستعمار والتقدم، حيث شكّل المشروع الناصري الرافعة التاريخية التي ألهبت مجمل الشعوب العربية، وانعكس ذلك على مجمل التغيرات التي شهدها العالم العربي عبر الانقلاب على معظم السلطات القائمة. لكن مصر نفسها شكلت بوابة الانحدار والتقهقر للمشروع القومي النهضوي والتحديثي في العالم العربي، مذ طاولتها الهزيمة في حزيران 1967، وهي هزيمة لم تقتصر على الجانب العسكري بقدر ما شكلت هزيمة مجتمعية بكل معنى الكلمة، لم تقتصر آثارها على مصر، بل تعدّتها الى معظم العالم العربي. ليس مبالغة القول ان الشعوب العربية لا تزال تعيش وطأة هذه الهزيمة من خلال الانهيارات البنيوية التي تصيب مجتمعاتها، وتتسبب في انبعاث بنى العصبية والتخلف، بما يعنيه ذلك من حروب اهلية طائفية ومذهبية في اكثر من مكان في العالم العربي.
لم تكن "انتفاضة" 2011 الاولى من نوعها في مصر، فتاريخ الشعب المصري يشهد لانتفاضات في اكثر من مرحلة، من ثورة عرابي في نهاية القرن التاسع عشر الى تظاهرات 1919 بقيادة سعد زغلول، الى حريق القاهرة وما تبعه من انقلاب 1952، الى التظاهرات الطالبية في 1968 و1972، وصولا الى انتفاضة كانون الثاني من العام 1977. كانت هذه الاحداث تضع النظام كل مرة على شفير الانهيار، لكن اجهزة السلطة كانت قادرة في الوقت نفسه على السيطرة على الوضع وضرب القوى المناهضة لها والمتسببة في الاحداث، مما يجعل المرء قلقا على المآل الذي سينتهي اليه الوضع الشارعي هذه المرة، وما اذا كانت الانتفاضة ستشهد مصائر مماثلة لما عرفته انتفاضة العام 1977.
لم تكن الانتفاضة المصرية الجارية، ومعها الانتفاضة التونسية قبلها، صاعقة نزلت من سماء صافية، بل هي محصلة ممارسات النظامين على صعيد التحكم بالسلطة وكيفية معالجة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تحولت السلطة حفنةً من المتسلطين على الشعب من رجال اعمال وقادة عسكريين، تحكموا بموارد البلاد وعاثوا فيها نهبا وفسادا، فتكوّنت طبقات طفيلية راكمت المليارات فيما يعيش معظم الشعب تحت خط الفقر، وتسود البطالة ويعاني الشباب التهميش. لتأمين هذه السيطرة على الموارد، سيّجت هذه الانظمة حكمها بالاستبداد والتسلط والقمع العاري، عبر ضرب القوى المعارضة والزج بها في السجون او ارسالها الى المنافي وتقليص حرية الرأي والتعبير الى اقصى الحدود. لذا لم يكن غريبا ان تكون شعارات الانتفاضتين التونسية والمصرية متركزة على مطلبي الخبز والحرية، بصفتهما الحد الادنى مما يحتاجه المرء للحياة الكريمة.
لم تكن مصر وتونس الدولتين الوحيدتين في العالم العربي تعرفان هذا النمط من الحكم الاستبدادي والنهب لموارد البلاد، فعلى امتداد العقود الماضية لم تقدم الانظمة الى شعوبها ما يخالف تقديمات النظامين المصري والتونسي، بل ان بعضها كان متفوقا في القمع والاستبداد والنهب. لا شك ان جميع الانظمة العربية تراقب اليوم ما يجري في مصر خصوصا، لان الاحتقان المنفجر هناك يصعب ان تبقى آثاره محصورة هناك. في كل حال، ما يشهده اليمن والجزائر راهنا من اضطرابات، يبقى مؤشرا الى امكان انتقال العدوى المصرية.
لسنوات خلت بدت الشعوب العربية غارقة في عالم من الركود واللامبالاة تجاه ما تعانيه من فقر واذلال واحتقار، بل كان الشعور السائد اقرب الى اليأس من امكان مغادرة هذا الركود الشعبي. اليوم، يقف العالم كله مشدوهاً حيال ما يحصل في مصر من تحولات واحتلال شوارع. لا ينكر احد ان ما بعد النزول الى الشارع ليس مماثلا لما قبله، فقد دخلت المنطقة العربية في مخاض جديد، لن تقلل الفوضى، السائدة الى حد بعيد، والتخريب المرافق لها، من اهمية ما يجري. في كل حال، لا يقدم التاريخ ثورات صافية خالية من الفوضى والشغب، منذ الثورة الفرنسية وصولا الى ثورات القرن التاسع عشر في اوروبا، ومعها حركات التحرر الوطني في العالم الثالث خلال القرن العشرين.
يمتزج اليوم شعور عربي غالب بالأمل والقلق: الامل في ان ينتقل الحدث المصري ويكنس انظمة الاستبداد، والقلق من اجهاض الحركة واستعادة الاجهزة الامنية سيطرتها لصالح سلطة اشد هولا في الاضطهاد والقتل.
|