لطالما استغربتُ كيف أن شعوبنا تقبل هذه الأوضاع المزرية على جميع الصعد؟ كيف تقبل هذا الاستعباد الذي تكبل نفسها به؟ وأقول: لا بد أن تثور، ولا بد أن يتغير الوضع. ولطالما سمعتُ تعليقات تهزأ من "تفاؤلي"، أي "سذاجتي". لكن يبدو أن عصور "الرجل الصغير" بحسب رايش آيلة الى السقوط.
في العام الماضي كنت في زيارة للقاهرة في مثل هذا الوقت بالذات، بالتزامن مع معرض الكتاب هناك، ومما كتبت في صحيفة "أوان" الكويتية: "معرض القاهرة كان التتويج للفقر الذي صدمني في المدينة. وهو ظاهر بشكل يصفع العين، وما يقع خلفها، أي الوعي والحساسية البشريين، والحس بالعدالة والحق في إنسانية محتشمة للجميع. صدمني الفقر في حي سيدنا الحسين، صدمني في الشوارع الفقيرة في منطقة بولاق الدكرور، وصدمني أيضاً في معرض الكتاب، ولو بشكل أقل ومختلف. صدمني أن أرى بشراً مثلي، لهم مظهري ووعيي نفساهما والأدوات - الأعضاء الأساسية - التي لديَّ: ينطقون مثلي ويشمّون ويسمعون ويتنفسون مثلنا جميعاً... فلماذا أجدني مختلفة عنهم، وأحصل على أكثر بكثير مما يحصلون عليه؟ وأسأل لماذا يعيشون في ظروف على هذا القدر من السوء، هم الذين استطاع أجدادهم القدامى أن يكونوا على هذه الروعة من التطور والتقدم؟ لماذا اختلفوا إلى هذا الحد؟ ولماذا لم يعد في إمكانهم التمتع بالحد الأدنى من الاحتشام الانساني؟ لماذا يجب ألا يتمكنوا من الحفاظ على النظافة الشخصية والصحة والحصول على طعام نظيف وثياب معقولة ومساكن مقبولة ومواصلات وطرق وعمل...؟ لماذا يشكل الانتقال من مصر الجديدة عبر كوبري بسيط يقاس بالأمتار، انتقالاً من عالم إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، لا تنتظم قوانينه بما هو متعارف عليه! لماذا أجد هذا الفارق غير المقبول على المستوى الإنساني بين مواطنين ينتمون إلى البلد عينه كأنهم كائنات من مكان آخر؟ وكيف يقبل الانسان المصري المتوسط هذا الوضع، وبماذا يبرر المسؤول هذا الوضع؟ كيف يقبل أن يكون مسؤولاً ويترك معظم مواطني بلده، أو القسم الأكبر منهم على هذا الوضع؟". كلام ساذج، ومثالي، ولا يفهم بالسياسة، ربما! لكن السؤال: كيف السبيل إلى تغيير الأمور؟ أليس عبر محاولة الإجابة عن أسئلة بديهية وبسيطة وساذجة؟
مع ذلك استمتعتُ في القاهرة بعروض صوفية، أحدها قدّمه زوار سيدنا الحسين الفقراء، لمناسبة ذكرى المتصوف الشاذلي، وآخر – "عرض التنورة" - في الغورية في مبنى تابع لوزارة الثقافة. هذان العرضان، وسواهما، يقولان أشياء متعددة عن العمق التاريخي والثقافي للمصريين. ومن المؤسف أن تتجاور مع كل هذا الفقر، ونقص الحيلة، والتأخر لبلد عشنا طفولتنا نحلم به كمثال، ونشرب أقوال زعيمه وأفعاله. فكيف تحول البلد الذي كان المنافس الأكثر تطوراً لليابان في مطلع القرن العشرين، إلى ما هو عليه حالياً؟
قد يقول قائل إن المصريين القدامى كانوا فقراء في معظمهم، لكن عدا أن مفهوم الفقر في تلك الأيام كان مختلفا عنه الآن، فشتّان ما بين الفقر مع الإنجاز (كما هي حال معظم الصينيين) والفقر من دون أي قدرة على أي إنجاز، أو ابتكار، كما هي حال دول الفقر العربية.
رايش، المأخوذ بالحرية، وهو أحد أهم المحللين النفسيين والمنظّرين الماركسيين – الفرويديين؛ خاب أمله مما آلت اليه الأمور في الاتحاد السوفياتي، ففضح الفاشية الحمراء مثلما فضح الفاشية السوداء، وجميع أشكال الفاشية والمجتمع التسلطي، خزان البؤس الكبير. في كتابه الصغير، "إستمع أيها الرجل الصغير" راقب رايش طويلاً كمشاهد ساذج، وفهم أخيراً لماذا يتصرف البشر كما يفعلون، مكتشفاً برعب ما يكابده رجل الشارع، أي الإنسان العادي، ويفرضه على نفسه، وكيف يتعذب ويثور، وكيف يعجب بأعدائه ويغتال أصدقاءه، وكيف أنه في اللحظة التي يصل فيها الى السلطة كممثل عن الشعب، يسيء استخدام سلطته ويمارسها بشكل أسوأ مما كان يقوم به بعض ساديي الطبقات العليا.
هذا السلوك الوضيع المتعصب الذي يتملكنا ويفتتنا، يسمّيه "الطاعون الانفعالي" ويجد أن هيمنته تعدّ أكبر خطر يهدد الحياة الطبيعية السليمة؛ لأن المصاب بهذا المرض يعتقد أن جميع نظرائه يمتلكون سماته نفسها، أي أنهم يكذبون ويخدعون ويخونون ولا يصبون إلا الى امتلاك السلطة. ويدين مثل هذه الحياة لأنها لن تكون سوى خاسرة وموبوءة.
ينتقد رايش كل "رجل صغير" فينا، الرجل الجبان الخائف غير المسؤول الذي يهرب ولا يستطيع النظر الى نفسه؛ يخاف النقد الذاتي ويخاف القوة التي يتوعد بها ولا يجرؤ على استخدامها. لماذا؟ لأنه لا يجرؤ على تخيل نفسه بشكل مختلف، ولا يجرؤ سوى على اتباع المعايير المفروضة عليه، ولا يجرؤ على أن يكون حراً، بل يقبل أن يظل ككلب مضروب. وإذا حصل على حريته، فلا يعرف كيف يحافظ عليها؛ لأنه لا يجرؤ على ان يكون صريحاً مع نفسه بل يلجأ الى ما يسمّيه "التكتيك". لا يجرؤ على أن يكون له رأي لأنه يحتقر نفسه ويقول: "هل يمكن أن يكون لي رأي مستقل لكي أقرر حياتي؟ لكي أعلن على الملأ أن العالم ملكي؟ وبلدي أنا أقرر مصيره؟".
الرجل الصغير يخفي صغارته وضيق أفقه خلف أحلام القوة والعظمة، خلف عظمة رجال آخرين. انه فخور ببعض قادة الحرب، لكنه ليس فخوراً بنفسه. يعجب بالأفكار التي لم يبدعها، بدل الإعجاب بأفكاره. الرجل الصغير يجعل من نفسه عبداً. أنه شرطي نفسه. إنه المسؤول الوحيد عن عبوديته، وليس أي أحد آخر. يبدو هذا ما فهمه الشعب المصري، الذي على ما قاله أحدهم هنا: "عايزين عيشة حلوة". فهل هذا كثير؟
وهذا ما ستفهمه الشعوب العربية جميعها. فألف تحية الى الثورات اللاعنفية والمدنية المواطنية الحقيقية الصاعدة، التي لا تريد الإسلاميين المتعصبين. أليس لافتاً أن يعلن الغنوشي أنه ليس الخميني!؟
كلمة أخيرة إلى المتبجحين اللبنانيين الذين ينتظرون ما يقوله نتنياهو أو وزير خارجيته النازي الموتور أو غيرهما لكي يتسلحوا بأقواله ضد الخصوم – "الأعداء الداخليين". عندما يجدّ الجدّ، يخرس المسؤولون الإسرائيليون ويرتبكون، ويُخرس نتنياهو ليبرمان لكي لا يؤثر كلامه سلباً على الأوضاع في مصر! فكفانا استخدام لأقوالهم المسمومة نوجهها سهاماً الى صدور "أعدائنا الداخليين" تارة، أو للتدليل على "صحة مواقفنا" بما صار يقترب من الهزل. أنهم يلعبون بنا لأنهم يجدون أن ما نقوم به ملهاة عبثية مضحكة في صالحهم. فهل نتعلم!؟ |