عندما يصدر هذا العدد من "الملحق"، تكون مرحلة طويلة دامسة قد انتهت - أو شارفت الانتهاء - في العالم العربي، ومرحلة جديدة تشقّ طريقها الى النور والابتداء. لقد فعلها الشعب المصري الخلاّق أخيراً، كما يجب أن تُفعَل الثورات. هذا ما يأمله المثقفون والناس الأحرار، الذين نزلوا جميعاً الى الشارع لإسقاط الكابوس الاستبدادي. وها هو الشعب الجميل والطيّب يدحض "نبوءة" المتنبي حول نواطير مصر. فانظروا جيداً الى النواطير الحقيقيين الشعبيين في "أمّ الدنيا"، الذين استيقظوا حقاً. هكذا نأمل أن لا يؤكل عنبٌ من عريش مصر بعد الآن غصباً، أو نهباً، أو رضوخاً، إنما فقط من طريق الحق، والحرية، والعدالة، وهنيئاً، وتحت سماء الديموقراطية.
قبل ذلك بأيام، بأسابيع قليلة، كان الشعب التونسي قد فعلها، هو أيضاً، وكما يجب أن تُفعَل الثورات، تأكيداً لـ"نبوءة" أبي القاسم الشابي حول إرادة الحياة.
فتحيةً ثقافية صادقة الى شعبَي مصر وتونس، ودعوة الى استكمال عناصر النجاح لهاتين الانتفاضتين، بإقامة النظام الديموقراطي دون سواه من الأنظمة، وبإبعاد الأيدي التي تتحرك في الظلام. لقد وضعونا – يا للعار - بين شاقوفين، شاقوف الديكتاتوريات الأمنية والسياسية من جهة، وشاقوف الديكتاتوريات الدينية من جهة أخرى، وقالوا لنا أن "نختار"، مطمئنين وعارفين أن فلسفة المطرقة والسندان هذه، ستجعل الشعوب العربية المضطهَدة ومثقفيها وأحرارها أسرى الابتزاز العقلي الرهيب، وستمنعهم من الاختيار بين شرّين، أحلاهما مرّ.
لكنْ، ها هي الديكتاتوريات العربية تخسر رهاناتها الابتزازية هذه، رهاناً تلو رهان (لا تنسوا الرهان الديكتاتوري العراقي، وإن يكن سقوطه قد تحقق بدبابة أميركية، وإن يكن بديله ليس المشتهى)، ولا أعتقد أن الرهانات ستتوقف عند هذا الحد. فـ"تباشير" الانعتاق تهلّ أهلّتها في أكثر من موضع، في المنطقة العربية الغارقة بأسرها في ليل الديكتاتوريات الدامس.
لا يسعى هذا المقال الى التحليل أو التفكيك أو التنظير الثقافي. كما لا يتنطح الى التدخل في شؤون الدول الداخلية. يبتغي فقط أن يوجه تحية الى كل الأحرار العرب، ويبتغي أن يقول شيئاً واحداً لا غير: حركة التاريخ لا يمكنها إلاّ أن تكون ديناميكية، والى الأمام، مهما تكن العراقيل والمشقات والأهوال. فعسى تشقّ الشعوب العربية طرق التغيير بالأساليب الديموقراطية السلمية، وبأيديها، دون سواها من الأساليب والأيدي. المسألة بسيطة وواضحة، إذ يكفي أن نتأمل هذا المشهد: العالم العربي برمته، من عواصمه الى قراه، الى أصقاعه البعيدة، يعيش في ظل الأنظمة الديكتاتورية منذ أكثر من أربعين عاماً. وحده هذا المشهد يعبّر عن أحوالنا. إنه لمشهدٌ مثير للخزي وللشعور بالمهانة. طوال أربعين عاماً، بل أكثر، لم تستطع المكوّنات الثقافية والمجتمعية الطليعية في العالم العربي أن تُحدث نقلة نوعية تاريخية واحدة. كأن القَدَر الكابوسي هو وحده القَدَر.
صحيح أن المقارنة غير موضوعية وغير علمية، بين الواقع اللبناني والواقع العربي عموماً، بسبب الخصوصية السياسية والتكوينية للحال اللبنانية، إلاّ أن ما جرى في لبنان قبل ستة أعوام كان يومذاك ضوءاً يتيماً في العتمة الدامسة، ومفارقة شعبية وديموقراطية نادرة، وإن غير مكتملة العناصر والمكوّنات. وها هو هذا الضوء اليتيم يُهمَد - يا للعار - بأيدٍ لبنانية، فضلاً عن الأيدي الإقليمية والدولية. كأننا ننتفض أو نريد الانتفاض لكننا لا نستطيع أن نكمل المشوار، أو لا نعرف أن نستطيع ذلك، عبر الشعب أجمعين. مستيقظين متألمين ثائرين رافضين غافلين صامتين راضخين تائهين نائمين منذ عقود، لا حول لنا ولا قوة. في الأحوال كلها، النتيجة واحدة: رقابنا جميعها تحت نير الاستعباد، وإن انتفض بعضنا بين حين وآخر، واقترب قليلاً قليلاً من وهم الخروج من النفق! ... ثم، فجأةً، في غمرة الفجيعة العربية الماحقة، يتساقط القَدَر أمام إرادة الشعبين التونسي والمصري، وتتحقق العبرة. فلتأخذ الشعوب العربية هذه العبرة، إذاً، ولتدافع عنها.
***
فلنعد شهراً واحداً الى الوراء، ولنصفْ ببساطة وتواضع وصدق واقع الأنظمة والحكومات والشعوب العربية، ولنلقِ ضوءاً على كراسيها وعروشها والمجتمعات، لندرك بالأحوال والأسماء وعقود السنوات، أن هذه الأقدار لا تُحتمَل.
سمّوا الدول العربية جميعها، الملكية منها والجمهورية، تدركوا للتوّ أننا نعيش خارج الزمن. يجب أن نريد العيش في الزمن. لهذا السبب يجب أن لا نريد سوى الديموقراطية. وحدها هذه الديموقراطية المنشودة، تجعلنا على طريق الحياة الكريمة، التي للأسف لا نحياها. كمن يصرخ بلسان شعبه قائلاً: أريد أن أعيش. فنحن في الواقع العملي للأمور، لا نعيش، إنما نعدّ أيامنا، وأحياناً ننساها، وأحياناً نكرهها، وأحياناً نموتها، تحت وطأة الأنظمة الديكتاتورية المتخلفة التي تتحكم برقاب شعوبنا العربية.
نريد أن نحبّ حياتنا. لا نريد شيئاً آخر. ولكي نحبّ هذه الحياة، يجب أن نريد الخبز والحرية والحياة الديموقراطية الكريمة. ليس عندنا أهداف "سياسية" أخرى، لا حزبية، ولا فئوية، ولا إيديولوجية، ولا دينية، ولا انقلابية، ولا كيدية، ولا ثأرية. ليس عندنا مطامح ولا مطامع ولا مصالح. في الحقيقة، مطلبنا واحد وحيد: أن نعيش فقط. أن نعيش في ظل دول حرة وحكومات ديموقراطية. يا جماعة، لا نريد سوى الديموقراطية. لقد اشتقنا الى الحياة. الى الحياة الكريمة التي يجب أن لا تكون محض أضغاث أحلام.
... ثم، والكلام موجَّه الى شعبَي تونس ومصر: لا تتركا أحداً – لا في الخارج الأميركي والأوروبي والعربي (والصهيوني الإسرائيلي طبعاً) ولا في الداخل التونسي والمصري - يأخذ لقمة الحرية من الأفواه، أو يستغل، أو يصادر، أو يشوّه. ولا تجعلانا نخاف على مصير الثورة والانتفاضة. وحذار أنصاف الحلول... وأضغاثها! أما عمل الثقافة، فطريقه طويل. وهو يبدأ من جديد، والآن، وإن أحياناً على طريقة سيزيف. وحده هذا العمل، لا ينتهي.
|