نلتقي في خضمّ مشهد عالمي يزخر بتعقيدات لم نشهد لها مثيلاً من قبل وبثورات مستمرّة في الشرق الأوسط. وكلّنا يعلم أن العالم العربي يشهد تغييرات تاريخية ستعيد وبعمق ترتيب الظروف الإقليمية، لا بل العالمية في شكل جذري ولعقود آتية، إن لم يكن لقرون. ولكن، حتّى هذه اللحظة، لا نعرف إن كانت هذه التغييرات ستنشر السلام والازدهار في المنطقة والعالم أم ستقوّضهما.
آتيكم من منطقة الشرق الأوسط، ومن دولة تدعى لبنان، خضعت كلتاهما لحكم الديكتاتورية والاحتلالات وعانتا من الحروب والتعصّب والفساد. وفي معرض بحثنا عن الحلول، أجد أن من المناسب تماماً أن نلتقي هنا في منتدى بروكسيل تحت رعاية صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة. تكمن عظمة خطّة مارشال في أنها أسّست لإعادة الإعمار الاقتصادي في أوروبا من خلال ابتكار أنماط جديدة من التعاون والشراكة في أوروبا وبين ضفّتي الأطلسي. لمَ لا نتصوّر اليوم خطّة مارشال جديدة يدعمها المجتمع الأطلسي وتخصّص لتأسيس شراكات مع القوى الديموقراطية الناشئة التي يولّدها «الربيع العربي»، لا بل تأسيس شراكات في ما بينها أيضاً؟ وفي الملاحظات المقتـــضبة التي تلي، سأناقش ديناميات الربيع العربي، وهو الاسم الذي شاع لموجة التغيير الاجتماعي - السياسي التي تجتاح العالم العربي. ولأسباب يمكن مناقشتها لاحقاً، أفــضّل اســتخدام تــعبير «اليقظة العربية» لوصف هذه الظاهرة. وأستعرض بالتحديد، ما أسمّيه «المفاتيح الخمسة لبلوغ ثقافة الحرّية والديموقراطية والتعدّدية»، وهي إجراءات ستساعد على تعزيز طموحات التغيير الإيجابي التي تجسّدها اليقظة العربية. ويشكّل وضع برنامج شامل لتأسيس ثقافة جديدة، نقطة الانطلاق المحورية في عملية طويلة من التعافي. ويجب على هذا التعافي أن يتخطّى الضرر العميق الذي خلّفته عقود من القمع والتماثل المفروضين فرضاً والديكتاتورية. في رأيي، المفاتيح الخمسة لتأسيس ثقافة جديدة في العالم العربي هي: 1) الإصلاح التربوي 2) الحوكمة الخاضعة للمساءلة 3) وسائل الإعلام الجديدة كجزء من الدمقرطة 4) التنمية الاجتماعية - الاقتصادية 5) لبنان كنموذج للديموقراطية العربية I. الإصلاح التربوي تتمحور الخطوة الأولى نحو تحقيق ثقافة جديدة حول منح شباب المنطقة دليلاً ملموساً على أن حياتهم تشهد تحسّناً. ويجدر الذكر هنا أن «اليقظة العربية» كانت، في الأساس، رفض الشباب لحاضر يملأه اليأس ولمستقبل بلا أمل. وكانت غاية تغيير هذه الدينامية الحزينة ما دفع الشباب، رجالاً وإناثاً، للنزول إلى الشارع مطالبين بالتغيير. ولأن الشباب كانوا محرّك هذه الثورة، يجب أن تبدأ الحملة للتغيير بالاهتمام بمخاوف هؤلاء الشباب، ولا سيّما في مجال التعليم. إن إراد العرب أن يصبحوا شركاء على قدم المساواة مع غيرهم من الدول في هذا العالم المعولم الذي نعيش فيه في القرن الحادي والعشرين، عليهم أن يلمّوا تمام الإلمام بالمعرفة والتكنولوجيا. لا بل عليهم أيضاً أن يعتنقوا ثقافة جديدة قوامها الحرّية الشخصية واحترام التعددية الاجتماعية، ومعايير الحوكمة الديموقراطية. على مرّ التاريخ، طالبت المجموعات المهمّشة في الشرق الأوسط، ومن بينها النساء والأقليات الإثنية والدينية المختلفة التي نجدها في معظم الدول العربية، بالمزيد من التمكين والانخراط عبر مجتمع مدني مفعم بالحياة. الأهمّ في الموضوع، أنّ على العالم العربي في القرن الحادي والعشرين الوصول إلى الاستقرار والتقدّم من خلال التركيز على تعليم التسامح والعمل الجماعي والشراكة بين مختلف شرائح المجتمع. ولا يمكن بلوغ هذا الهدف من دون انخراط المجتمع الدولي في شكل كامل لدعم هذا المجتمع الناشئ من الديموقراطيين العرب. II. الحوكمة الخاضعة للمساءلة يصف المـــؤرّخ الإغريقي هـــيرودوتس في مقــطع شــهير كيف أنه بعد وفاة طاغٍ فارسي، تنـــاقش النبلاء على شكل الحكومة التي عليهم اعتمادها، أهي أوليغارشية، أم ملكية، أو ديموقراطية. اليوم، وبعد سقوط الديكتاتوريين في تونس ومصر وليبيا واليمن، أصبح العالم العربي في خضمّ نقاش مماثل، بيد أن مجاله أوسع بكثير، وهو بالتالي يحظى بأهمّية أكبر. ومع مرور كل يوم يكتسب هذا الجدال المزيد من الإلحاح بسبب الانتفاضة المستمرّة التي يقوم بها الشعب السوري في كفاحه الملحمي لنيل الحرّية والديموقراطية. وعندما تتحرّر سورية من الطغيان الذي تتخبّط فيه وتؤسّس نظام حكم يخضع لمساءلة الشعب، ستتحسّن آمال تعزيز الديموقراطية إلى حدّ بعيد في أرجاء الشرق الأوسط. ولتعزيز الحركة المطالبة بالديموقراطية في سورية وغيرها من الدول، من الضروري وضع إطار جديد للشراكة بين دول الأطلسي والشرق الأوسط يساعد الشعوب العربية على تحديد حلولهم الخاصّة لتحقيق الإصلاح في مجتمعاتهم. وحدها شراكة شاملة من هذا القبيل، وهنا نشدّد على معنى الشراكة الحقيقة ومضمونها، تستطيع وضع رؤية وسياسات خلّاقة لمعالجة المشاكل المهمّة وتأمين الموارد اللازمة. ولترسيخ اليقظة العربية، على الدول العربية تأسيس المؤسسات التقليدية المعروفة التي تجذّر الحوكمة الخاضعة للمساءلة، أي البرلمانات، والمجالس التنفيذية، والمحاكم ذات الهوية المستقلة والسلطات المثبّتة دستورياً. طبعاً، تسبق كل ذلك انتخابات حرة وعادلة تؤمّن التكليف الشعبي الواسع الذي ترتكز عليه الحكومة الشرعية. علاوة على ذلك، يحتاج العالم العربي إلى ضمانة لا نكاد نجدها فيه اليوم، باستثناء رئاسة الجمهورية اللبنانية وحدها. وأعني هنا تحديد مدّة الحكم للحرص على منع أي قائد من التلاعب بالنظام أو تعديله ليبقى في السلطة مدى العمر. اليوم، على الديموقراطيين العرب تثقيف الشعوب العربية وإقناعها بأن الديموقراطية وحدها قادرة على تأمين أنظمة حوكمة خاضعة للمساءلة والمحافظة على استمرارها. وتوافق كل شرائح الرأي العام العربي أن، في العقود الأخيرة، نادراً ما عرف معظم العرب معنى الحوكمة الخاضعة للمساءلة. وعلى رغم الاختلافات المهمّة في الحالات الوطنية المختلفة، تشكّل المطالبة بحوكمة خاضعة للمساءلة جوهر اليقظة العربية. الحوكمة الخاضعة للمساءلة مسألة أساسية لأنها وحدها تضمن الآتي: أولاً، إحلال الشفافية في كل مستويات الحكم، ثانياً، تحسين التنمية الاقتصادية لكل شريحة من شرائح المجتمع، وثالثاً، الحؤول دون المغامرات العسكرية الخارجية غير المدروسة. وهذه النواحي الثلاث كلها غائبة حالياً في العالم العربي. لحسن الحظ، نجد في بعض الأمثلة البارزة الأمل بأن القادة السياسيين والدينيين يعتنقون مبادئ الديموقراطية. ففي حزيران (يونيو) 2011، أصدر فضيلة الإمام أحمد الطيّب، شيخ جامع الأزهر في القاهرة، وهو المركز الرائد في العالم للفكر المسلم السنّي، وثيقة عن الديموقراطية وتعلن في جزء منها أن: يعتنق الأزهر الديموقراطية المرتكزة على التصويت الحرّ والمباشر... فالتعاليم الإسلامية تضمّ التعدّدية، وتداول السلطة، وتحديد التخصّصات، ومراقبة الأداء، والبحث عن المصلحة العامة في كل التشريعات والقرارات، وحكم البلاد وفق قوانينها، ومحاربة الفساد، والحرص على خضوع الجميع لمبدأ المساءلة. في السنة المنصرمة أيضاً، كتب عصام العريان، وهو عضو في مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين في مصر، في صحيفة «نيويورك تايمز»: ... نتصوّر تأسيس دولة ديموقراطية مدنية تستوحي من المبادئ العالمية للحرية والعدالة، وهما من القيم الإسلامية الأساسية. باختصار، نظراً إلى أهمّية الإسلام في الشرق الأوسط، يجب أن تأخذ حركة الديموقراطية العربية التصوّرات الإسلامية للحوكمة الخاضعة للمساءلة في الاعتبار وأن تعوّل على وجهات النظر التي أطلقتها جامعة الأزهر والإخوان المسلمون. أوّد أن أذكر أيضاً بالميثاق الذي أطلقته في 27 كانون الثاني (يناير) 2012 في غضون مؤتمر أقيم في لبنان ونظّمه حزب الكتائب اللبنانية مع الاتحاد الدولي للأحزاب الديموقراطية الوسطية. فقد أيّد هذا الميثاق شروطاً أساسية كثيرة منها عدم انتهاك الحرّيات، والمساواة بين الرجل والمرأة في كل أطر الحياة، ومعارضة التمييز ضد أي مجموعة تبعاً للعرق أو الدين. III. وسائل الإعلام الجديدة كجزء من الدمقرطة حتّى المراقب العادي للأحداث الحالية في الشرق الأوسط سيبدي تقديره للطريقة التي كانت فيها وسائل الإعلام العربية والدولية في قلب اليقظة العربية، لا بل يمكن القول إن جناحَي الثورة كانا الشباب من جهة والإعلام من جهة أخرى. وبرزت في شكل كبير البراعة والشجاعة اللتان أبداهما أولئك المواطنون - الصحافيون الذين تواصلوا مع مجتمع الإنترنت العالمي من خلال بث حي للروايات والصور والأفلام. فنقلوا صورة المحتجّين وتطلّعاتهم إلى الجماهير المحلية والوطنية والعالمية. للأسف، غدا الكثير من هؤلاء المواطنين - الصحافيين شهداء الديموقراطية بعدما أرداهم عملاء القمع. وما زال الوضع سارياً الآن في سورية. ونظراً إلى تأثير الإعلام العربي الهائل على توضيح ورسم مسار الأحداث في العالم العربي، لن يعرف أي برنامج يهدف إلى نشر ثقافة الحرية والديموقراطية والتعددية النجاحَ من دون دعم الإعلام. يجب أن يصبح الإعلام العربي الجديد شريكاً في تأسيس ديموقراطيات عربية جديدة. فالإعلام الجديد مع الإصلاح التعليمي هما الوسيلتان الفضليان لنشر أفكار الديموقراطية ومبادئها. لهذا، على الوكالات العالمية المرتبطة بالأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية في القطاع الخاص أيضاً، أن تساعد على تدريب الإعلام الجديد ليس في المجال التقني فحسب بل في معايير الديموقراطية أيضاً. في العهد الجديد للديموقراطية العربية، في حال نشوئها، ستكتسب المعلومات أهمّية في نشر ثقافة جديدة ومأسستها لا تضاهيها سوى أهمية التعليم. وفي عصر معولم ومع الاتصالات العالمية، يجب أن يؤدّي المجتمع الدولي دوره في هذه العملية. بهذه الطريقة، سيستمرّ الإعلام بالتعاطي مع الطلاب والشباب ومنحهم الوسائل لتحسين معرفتهم وتطبيقها لتحسين مجتمعاتهم. IV. التنمية الاجتماعية - الاقتصادية تبيّن التجارب عبر التاريخ أن الحرمان الاجتماعي - الاقتصادي أو الفقر يفضي إلى التطرّف، وفي الشرق الأوسط غالباً مع يعني ذلك التعصّب الديني. لقد انهوست الأنظمة الحاكمة القديمة في العالم العربي بالقوّة العسكرية، وأسرفت في الإنفاق على القوّات المسلّحة على حساب رخاء شعوبها الاجتماعي والاقتصادي. فاستهلك هذا التوجّه نحو الأمن العسكري موارد كبيرة وسمح للحكومات العربية بتحويل النظر عن الإصلاحات الداخلية اللازمة. في بداية مداخلتي، تطرّقت إلى فكرة خطّة مارشال جديدة يمكنها أن تشكّل جسراً بين المجتمع الأطلسي والقوى الديموقراطية في حركة اليقظة العربية. من البديهي القول طبعاً إن أفضل تطبيق لخطة مارشال هو في مجال التنمية الاقتصادية. ولكن، أودّ التشديد على أن أيّ جدول أعمال يُنصّ لأيِّ خطّة مارشال جديدة يجب أن يتخطّى الاقتصاد والتجارة. فاعتماد برنامج جديد متعدّد الوجهات للمساعدة والتبادل قد ينشئ أنماطاً عالمية وإقليمية جديدة من التعاون من خلال حلّ النزاعات وإحلال السلام، والحوكمة والديموقراطية، والحوار بين الثقافات، وحتّى التوفيق المرتكز على القيم الدينية والروحية. ويجب أن تركز المقاربة الجديدة التي يستطيع الديموقراطيون العرب، ولا سيما الفئات المثقّفة منهم، رفع شعارها على تشاطر منافع التنمية الاقتصادية بأوسع قدر ممكن، وإلا ستبقى الضيقة الاقتصادية المستمرّة مصدراً لعدم الاستقرار الإقليمي والعالمي حتى. V. لبنان كنموذج قابل للعيش للديموقراطية العربية أودّ التطرّق للحظة إلى حالة لبنان الذي أعتقد أنه كان بوتقة الشرق الأوسط وما زال، ففيه تتفاعل المبادئ السياسية المتعددة والعقائد الدينية والتوجّهات الثقافية في المنطقة في شكل دينامي. في سياق حديثنا نفسه، يستطيع لبنان أن يكون بوتقة اليقظة العربية من خلال إظهار كيف أن الحرية الشخصية واحترام التعددية الاجتماعية والحوكمة الديموقراطية يمكنها أن تسود ضمن إطار عربي. على مرّ التاريخ، وعندما كان لبنان في أوجه، شكّل مثالاً للحرّية والتعددية والديموقراطية. واليوم، يجدر بنا الإفادة من الثقافة والتقاليد والقدرات الديموقراطية التي يتّسم بها لبنان وتشاطرها مع الجماهير العربية. في هذه اللحظة، يطالب الديمقراطيون اللبنانيون المجتمعَ الدول بدعم لبنانَ ديموقراطيٍّ يواجه تهديدات داخلية وخارجية خطيرة. فلبنان في موقف هشّ وحرج، وفي وسع المجتمع الدولي دعمه من خلال إجراءات محدّدة، مثل المساعدات الاقتصادية، والالتزام الراسخ بكل قرارات مجلس الأمن حيال لبنان، ودعم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تدعمها الأمم المتحدة. في هذا الإطار، علينا أن نتذكّر ثورة الأرز في لبنان التي انطلقت عام 2005، فعلى رغم أنها نادراً ما تنال التقدير والذكر من المعلّقين العرب أو الغربيين، ففي تلك الفترة، حققت المعارضة اللبنانية نجاحاً ملحوظاً عندما أرغمت الجيش السوري على الانسحاب من بلادها بوسائل سلمية. وعلى القدر نفسه من الأهمّية، نجح ناشطو ثورة الأرز في التحريض على إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ثمّ طالبوا بانتخابات برلمانية حرّة وعادلة ونالوها.
ولا شكّ في أن ثورة الأرز في كل أوجهها كانت مقدّمة ضرورية لليقظة العربية الأوسع نطاقاً. وعلى غرار اليقظة العربية، أتت ثورة الأرز مقابل ثمن باهظ طاول اغتيال قادة لبنانيين معروفين مثل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وابني الحبيب، النائب والوزير بيار الجميل. يبيّن تاريخ الثورات أن التعافي من الديكتاتورية السياسية والركود الاقتصادي والقمع الثقافي عملية تتطلّب عقوداً من الزمن. ولكن، نظراً إلى الحماية التي توفّرها أنظمة الحكم الخاضعة للمساءلة والمترسّخة في الدساتير الحديثة، يمكن رسم الطريق نحو الديموقراطيات الحديثة بيد واثقة. وللمجتمع الدولي، خصوصاً المجتمع على ضفّتي الأطلسي، مصلحة في مستقبل العالم العربي، وعليه، بناءً على ذلك، المساهمة في شكل كبير في مساعدة المنطقة على تحقيق إمكانياتها. أنظر إلى العالم العربي في هذه المرحلة من التاريخ، وأجد ما يدفعني للتفاؤل بحذر في أن ثقافة جديدة من الحرية والتعددية والديموقراطية قد تنشأ. * الرئيس السابق للجمهوريّة اللبنانية، والنّص مداخلة ألقاها في 24 آذار الجاري في منتدى بروكسيل الذي رعاه صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة.
|