الخميس ٢١ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٦, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
رفـــض الفـــجــــــــور – بقلم غسان سلامة

-1-


تلك اللحظة في يوم من أيام كانون الأول. لحظة حاول عديدون إعادة إنتاجها هنا وهناك، في مصر أو الجزائر أو غيرها من البلدان، بدون ان يفلحوا، فاحترقت اجسادهم هباء. تلك اللحظة التي دامت رفّة جفن، بين ردع شرطي والإتيان ببعض المحروقات ورشها وإشعال النار فيها، فيها جمال الفعل الأقصى بل إنها الجمال عينه.


وهي الجمال، لأنها ما قبل السياسة وما فوقها. عجز الكلام عن التعبير عن الغضب المتراكم فجاء عود الثقاب يسعف اللسان الفاشل. هذا شاب قبل أن يعيش في مدينة من بر تونس، بينما تنعم مدن الشاطىء بعوائد السياحة وحلاوة السواح، وقبل أن يضع شهادته الجامعية في الدرج بعدما اكتشف انها ليست المفتاح السحري الذي اعتقد وهو يراجع دروسه على ضوء قنديل خافت للفوز بفرصة عمل لائقة، وهو ارتضى الاكتفاء ببيع الخضراوات على عربة بعد أن تلاشت آماله الأخرى جميعاً. لكن تنازلاته، وهو بها أعلم، بقيت له، بل وجاء شرطي يجادله حتى في ممارسة ما يعتبره نوعاً من الذل المعيشي الذي ارتضاه بعدما تلاشت الاحلام الاخرى. فيا للشعور بالظلم المطلق، بالظلم العاري: أنا أقبل بقليل القليل كي اعتاش ولكني، حتى من القليل القليل أُحرم. يعجز اللسان ويشتعل عود الكبريت.

-2-


علّمنا محمد البوعزيزي الكثير، ومنه أن السياسة التي نتعاطى ليست كل شيء، لا الأفكار ولا الأيديولوجيات، ولا الصراعات على السلطة، ولا مشاريع التحرير والتحرر. ذكّرنا، وجسده شعلة نار، أننا قبل كل هذا، وفوق كل هذا، نعيش في عصر الفجور، ونصمت عنه متحججين باهتمامنا البائس بالسياسة، أو بولعنا الخائب بالأفكار الكبيرة. الفجور. نعم الفجور. منذ نحو عقود ثلاثة تهاوت كلّ الحدود أمام الإثراء الفاحش والإنفاق التظاهري وعبادة المال، سيّما إن كان حراماً. لن يبرىء أحد الجيل السابق من رجال الشأن العام من حب الفلوس ومن دفع الرُّشى ولا من قبضها. ولكن فورة النفط بعد 1972، وتكدّس المليارات، ونهم الاقتناء الدائم والإنفاق غير المحدود، والغرام غير المسبوق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة، وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية، أدخل في المجتمعات العربية مستويات غير معهودة من الفجور يتندّر بها على حسابنا العالم بأسره. وتساوت النظم المعدمة بالدول النفطية في ممارسة هذا الفجور، وجوهره هوّة سحيقة تزداد عمقاً كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام، ومن يبقى معدماً وهامشياً.


دعك يا صاحبي من التمييزات الخائبة بين دول النفط ودول القحط، أو بين الملكيات والجمهوريات، أو بين دول الاعتدال ودول الممانعة، فكلّها اعتبارات في الحقيقة شكلية. دعك من ذلك، وانظر يا صاحبي الى تلك الآلاف المعدودة (إن لم تكن المئات) من الافراد التي استولت في كل بلد عربي أعرفه على 20 او 30 او 40 بالمئة من كامل الثروة المحلية. انظر الى دول المشرق، انظر الى مصر والسودان، ودول الخليج ودول المغرب. في كل بلد مجموعة ملتصقة بالسلطة السياسية، تشكل نواتها او تدور في فلكها او تشكل امتداداً لها، قد استولت على سبل الإثراء السريع، وما اكثرها، يوم فتح الحاكم أمامها المجال كي تشاركه بالمغانم او ان تحققها وتعود اليه بعد ذلك لتقتسمها معه.


كل منا يعرف ذلك، وبعض من التقيهم قد تخصص فعلا في متابعة الصفقات المشبوهة والرُّشى الهائلة والاثراء الفاحش. بل اني تعرفت على كثيرين يكادون لا يتحدثون الا عن هذا. ولكن اهتمامهم بدا لي دوماً ملتبساً، مشوباً بالكثير من الحسد. فهم يتحدثون عن إثراء الآخرين لأنهم بالاساس قد حُرموا من فرص الاثراء ذاتها، لا لأنهم ينتقدون مبدأ مدّ اليد للمال العام، ونهم تكديس الاموال، انهم مصابون بالنهم عينه، لكنهم عاجزون عن ممارسته، او عن مزاولته بالنسبة نفسها من المداخيل.

-3-


البوعزيزي لم يكن يعرف على الأرجح أرقام ثروة هذا او ذاك من اقرباء رئيسه ومن افراد حاشيته. ربما لو ادرك حجم ثروة بعضهم ما كان تمكّن من تخيّل الرقم، وما كان قد صدّق ما يقال له. وتونس بالمناسبة لا تحتمل ارقاماً من الثروة الفردية والعائلية، بهول الارقام التي يتم تداولها في دول عربية اخرى. إني لمدرك ان الايديولوجيا النيوليبرالية قد عمّقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف انحاء العالم، في الولايات المتحدة، في الصين او في الهند، في روسيا. مشاهد مرعبة عن الفجور نفسه: قصور وشقراوات في الأحضان وحياة عاطلة شبه دائمة في الكاريبي وسردينيا ومراكش، بينما رجالك يزيدون من ثروتك وأنت تتمتع بالحياة المرفهة. 7 ملايين بشري من اصل 7 مليارات يملكون اليوم اكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمّق يزداد حدّة في كل بلدان العالم، سوى استثناءات معدودة.


لكن فجورنا أبشع لأن اثرياءنا أقل إنتاجاً من زملائهم في العالم، واكثر اعتماداً على الريع، وأكثر التصاقاً بالسلطات السياسية بل إنهم أحياناً عماد تلك السلطات.ومن بعض ما علّمنا البوعزيزي في لحظة عابرة من الزمن، أن هذا الفجور لا يواجه إلا بالعودة إلى الأخلاقيات البسيطة. هذا الفجور لا يواجه لا بالسفسطائيات الماركسية، ولا بالتعويذات الدينية، إنما فقط بالرجوع الى الغضب العاري والعفوي، بالعودة الى الرفض البسيط للظلم بدون أي محاولة لتوصيفه أو تفسيره. مجرّد الرفض بإشعال عود كبريت، وإذا بالخوف الذي في باطنك يتحول فجأة الى هلع عند خصمك الحاكم المستبد المثري.

- 4 -


ما إن فر زين العابدين من قصره المتطاول على شاطىء قرطاج حتى اشتعل السؤال المضني: من ذا الحاكم الذي يليه على دروب التقاعد المبكر؟ أهذا الرئيس أو ذاك الملك أو ذلك الامير؟ شعرت عند أبناء جلدتي بعطش مستجدّ لمشهد الرؤوس المتدحرجة، أو على الأقل لمشهد المداخلات البائسة أمام الكاميرا وصاحب العمر الطويل يستجدي مواطنيه أن يتحملوه لسنوات ثلاث اضافية فقط لأنه والله! والله! لم يفكر يوما برئاسة مدى الحياة. كثيرون اعتقدوا ان الحكام الآخرين أصابهم الهلع من عدوى الفيروس التونسي سيّما وأن أقربهم لتونس انبرى يدافع عن جاره المخلوع. ورأينا شعراء البلاط هنا وهنالك يردون بالحجة البائسة نفسها: الخصوصية التونسية مرض محدد لا أثر له خارج حدود تلك الجمهورية الهانئة البسيطة، ولا خطر بالتالي من أي عدوى. فالعرب، على عكس أوروبا الشرقية منذ نحو عقدين، لا يمارسون لعبة الشطرنج، وهم بالتالي عصيون عن أن يصبحوا ضحايا موجة من الانتفاضات. يا لبؤس المنظرين الذين كتبوا المجلدات عن وحدة المجتمع العربي، وعن التواصل والتشابه والتفاعل بين البنى المجتمعية العربية والذين راحوا الان يحدثوننا ببلاغة فصيحة عن خصوصية تونس، وعن عدم فاعلية نموذجها، وانعدام عدواها كنوع من اللقاح ضد تلك العدوى التي يعرفون في أعماقهم أنها ممكنة.


لكن شتان بين الشوق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، والوجوه الرئاسية الهلعة وبين تكرار التجربة التونسية هنا أو هناك. أعترف أني من الذين سيهنأون بانقطاع الرئاسات التي لا تنتهي، وأني لم أقبل يوماً بالتحايل العربي العام على مبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة. لكن مشهد الرئاسات المنقطعة على حين غرة له شروط ومواصفات.

- 5-

فما هو مغزى الحالة التونسية خارج تونس؟ الحق يقال إن من أرقى ما في الحدث التونسي هو بالذات تونسية الحدث، بمعنى الدور الهامشي (وربما المنعدم تماما) للقوى الخارجية في صناعة الحدث مهما جدت قناة "الجزيرة" في البحث عن تلك القوى، وأيضاً بمعنى أن صانعي الحدث من المنتفضين التوانسة لم يتنطحوا للعب دور يتجاوز حدود بلادهم، ولم ينظروا الى انفسهم بوصفهم قادة الثورة الفرنسية أو بلاشفة القرن الحادي والعشرين. الحدث التونسي في جوهره انتفاضة محلية في نوعية المحفزات وهوية الأطراف وآفاق التحرك الجماعي. وهذه الطبيعة المحلية ضمانة حقيقية لأبناء الانتفاضة إن عرفوا الحفاظ عليها.


لكن نجاح التوانسة (أم عدمه) في ترجمة انتفاضة جوهرها اخلاقي، وذات طابع محلي، وبدون قيادة وطنية مؤطرة إلى مشروع حكم بديل للحكم المخلوع مسألة تتجاوز تونس، شاء التوانسة أم أبوا. بمعنى ان تونس قد دخلت الامتحان الذي فرض تباعاً على غير بقعة عربية: هل إن سقوط النظام يعني بالضرورة حالة طويلة من انعدام الاستقرار بل والفوضى أم أنه بالإمكان تصور سيناريو انتقالي شبه سلبي بعد فرار المستبد الفارض للأمن بالقوة؟ إن كان الجواب التونسي ايجابياً تصبح العدوى اكثر احتمالاً. أما إن عجز التوانسة عن انتاج نظام بديل في فترة معقولة من الزمن، أو إن سمحوا للخارج ان يتدخل في شؤونهم او ذهبوا الى حد توسّل التدخل الخارجي المستمر (كما لم يخجل اللبنانيون يوماً عن القيام بذلك)، فقد يتحول حدثهم الجميل الى فزاعة يهدد بها زملاء بن علي من المستبدين العرب شعوبهم: تحملوني كما أنا وإلا فالفوضى ستضربكم.


وإن كان من المبكر الجزم بمآل الحدث التونسي فالحق يقال إن بعض عناصره، غداة فرار بن علي، تبعث على القلق عليه. كمثل المطالبة باقصاء مطلق لمنتسبي حزب الحاكم المخلوع، أو الحنين إلى بورقيبية تجاوزها الزمن، على الرغم من محاسنها، أو محاولة إسقاط تيار ديني على حدث لم يلعب فيه ذلك التيار دوراً يذكر في الوقت الذي سيحاول كثيرون في محيط تونس المغاربي او الاوروبي التدخل في شؤونها لدفع أدواتهم المحلية الى الصدارة. لذا فالسؤال الأول هو في مناعة الحدث التونسي امام دعوات التطرف والراديكالية في الداخل (وهي برأيي طفولية أو مشبوهة) وأمام محاولات التدخل من الخارج. جوهر المسألة يتعلق بطبيعة السلطة العربية الراهنة وباحتمالات تطورها. المسألة ليست كما يردد عديدون، في ظواهر التوريث وما شابه. المسألة في العمق هي في نظرة الحاكم الى السلطة، بوصفها ملكاً له، والى الدولة بوصفها متاعاً يحق له التصرف به للاثراء الذاتي او للتوريث لمن يشاء او للبيع والشراء والمقايضة. هذه ثقافة سياسية غالبة قد فرضت على مختلف الأنظمة العربية. مهما كان شكلها الدستوري المعلن، تحديداً لعلاقة الحاكم بالدولة بوصفها علاقة تملّك مطلق، كمثل تملّك فلان لأرض زراعية وتملّك آخر لمصنع. ومن فضائل تملّك دولة بدلاً من ارض او مصنع، هو ان الدولة تعطيك في الآن معاً عوائد عديدة متكاملة: السلطة على الآخرين، الثروة بوصفها عنصراً مرافقاً للسلطة، والجاه الذي يسعد قلب زوجتك واقربائك. هذه عوائد مادية ورمزية في الآن معاً لا يتيحها تملّك اي وسيلة انتاج اخرى. من هنا إلحاح من في الحكم على البقاء فيه، ومن هنا ايضاً اعتباره ان من حقه التصرف به كمثل توريثه لاحد اولاده. فاشراك العائلة الراهن في فوائد الحكم وعائداته، كما توريث الحكم اللاحق لاحد الاولاد كلاهما صورة عن الاساس، وهو ان الحكم عبارة عن تملّك بالمعنى الحرفي للكلمة.

-6-


ما العمل والحال كذلك؟ الحدث التونسي ضرب تلك المعادلة في الاساس إذ ان احتراق جسد في بلدة بعيدة فجّر ما في القلوب من عواطف ضامرة ضد تحديد تملّكي للسلطة من قبل من لا يستحق، في وطن لا يتحمّل هذا النزوع، حتى قال احدهم لي بالهاتف: لو طلّق بن علي زوجته في الوقت المناسب لربما نجا بنفسه، ومعناها ان التحول الى ممارسة التملّك الاسري للدول في جوهره مرفوض. هذا هو العنصر الذي إن تم إيضاحه في تونس وغيرها من البلدان من شأنه أن يجعل من ذلك البلد المغربي مختبراً مفيداً لإعادة النظر في طبيعة السلطات القائمة، وبالتالي في إرغام الحكام على الخروج من مواقعهم أو على الاقل على الخروج من مفهوم تملّك الدولة من خلال الحكم غير المرتبط بزمن أو من خلال توزيع الثروة على السلالة الافتراضية أو من خلال محاولة فرض التوريث. وإن لم نفلح في بلورة هذا الانحراف المفهومي السائد في مفهوم الحكم فلن نفلح في فرض العودة لتحديد سليم له.


ثم يأتيك طبعاً دور المجتمع الاهلي من خلال أحداث كتلك التي تمرّ بتونس. هناك مجتمع أهلي في تونس، كما في غيرها ودوره أساسي، خنوعه كنز للسلطة القائمة، وتحرّكه سبب هلعها الاول. لكن الاساسي هو في مدى استجابته للتضحية، وفي مدى نبذه للظلم. أنا لا أشك في وجود مخزون شعبي حقيقي معادٍ للظلم والفجور. ولكن هذا المخزون بحاجة الى عود ثقاب فعال كي لا يقدم على هبّات شعبية عقيمة. لكن أفضل أنواع المجتمع الاهلي هو ذلك الذي لم يصب بانقسامات عمودية مديدة، طائفية ومذهبية وجهوية أو لغوية. من حسن حظ تونس ذلك الضعف في الولاءات المحلية، كما انعدام الاختلافات العرقية والمذهبية، بحيث عندما يحصل حراك اجتماعي ما يصعب إطلاق صفة فئوية عليه، ويمكن لصداه أن يطال عموم المجتمع. لكن هذه الشروط غير متوافرة في الاردن أو في اليمن أو في العراق، لذلك فالحراك الاجتماعي موسوم فيها بالفئوية منذ انطلاقته. هنا يتميز النموذج التونسي، لا بمحليته فقط، وإنما ايضاً بانعدام فئويته التي على المجتمعات العربية الاخرى أن تتمكن من تجاوزها أو من معالجتها قبل أن تتحدى السلطات القائمة. من هنا أهمية الكف عن التغني الطوباوي بعظمة المجتمعات الاهلية، وفتح الأذهان على تنوعها واختلافها من مكان الى آخر، قبل الجزم بتحولها الى شارع، تلك العبارة البذيئة بحق الناس التي ما زال المتفوهون التلفزيونيون يلجأون اليها عن غباء أو عن تكبّر.

-7-


ومن الشروط الجديرة بالبحث ايضاً مسلك المؤسسات القائمة عند قيام الانتفاضة. من الواضح أن الجيش التونسي لم يهب هبّة رجل واحد للدفاع عن بن علي (القادم اساساً من الأمن)، بل ربما أنه لعب دوراً أكبر في دفعه نحو المنفى. هذا أمر في غاية الاهمية، خصوصاً إذا ساندها دور فعال للادارات المدنية، بمعنى أن يستمر القيّمون عليها بخدمة المواطنين في شتى المجالات من تعليم وصحة وطرق وما شابه، لكي لا يزيدوا من قلقهم، ولكي يثبتوا لهم استقلال أجهزة الدول عن الحاكم المستبد، وبالتالي إمكانية استمرارها حتى حين تبدأ الكرسي الرئاسية بالاهتزاز. إن من أهم شروط نجاح المجتمع الاهلي هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الاولى ومقارعة الثاني. ومن أهم شروط الاستبداد، على العكس، هو تمكّن الحاكم من المزج بين النظام والدولة بحيث تتعطل الثانية إن مُسَّ الاول بأذى. هنا ايضاً تبدو تونس محظوظة بارتفاع مستوى الشعور بالمواطنة بين أهلها، وبالتالي بقدر عالٍ من الوضوح في التفريق بين النظام والدولة مما جعل مسلك الجيش ومسلك الادارات المدنية ايجابياً، بمعنى أنه كان في الحد الأدنى محايداً، وفي حدّه الأقصى متفهماً الانتفاضة، داعماً لها.


قد لا يكون الفصل مطلقاً في تونس، ولكنه افضل من حاله في غير بلد عربي. ويقيني أن نجاح انتفاضة اخرى مرتبط بمدى الفصل المسبق في اذهان الضباط والموظفين وعموم الناس بين الدول والنظام، مما لم نجد له صدى يذكر في العراق غداة سقوط النظام هناك سنة 2003، حيث استولى قادة الميليشيات على منازل رجال النظام السابق، بينما نهب الناس ممتلكات الدولة نفسها، وكأنهم يجهلون انهم اصحاب تلك الممتلكات الحقيقيون.


اما الفصل المهم الآخر فهو بين اصحاب السلطة واصحاب الثروة، او على الاقل ارباب العمل. ان التصاقاً بالحكم يؤمن اجمالا مزايا غير مستحقة لأرباب العمل الذين يعلمون كيف يُكافأ على تساهله مع مصالحهم واطماعهم. هكذا تتكون النواة المثلثة الاضلاع (سلطة/ ثروة/ جاه) من حاكم يريد حصة له ولأقربائه من ارباح المنتفعين من نظامه الى سعي مشترك نحو الجاه لدى اصحاب السلطة واصحاب الثروة وقد تقاربا الى حد الاندماج الفعلي في عدد من الاحيان. لذا فالمرض الذي يصيب السياسة العربية له جذور عميقة في طبيعة الاقتصاد الريعي، كما في مدى التصاق اصحاب المشاريع بأصحاب القرار السياسي. ومن اسباب ضعف المجتمع الاهلي خلوه اجمالا من ارباب العمل الذين كثيراً ما يفضلون الالتصاق بالحاكم، ودفع الجزية الضرورية له للإبقاء على الصلة به، عوض التأطر في بنى نقابية ومهنية تدافع عن استقلال المجال الانتاجي، عن المجال الامني والسياسي. لذا كانت الرهانات على الطبقات الوسطى ضعيفة خلال العقود الماضية، بالذات لأن تلك الطبقات الجديدة والهشة في الكثير من مفاصلها، فضلت وصفة استتباع السلطات لها على الدفاع المهني عن مصالحها الذاتية. وكان على علماء الاجتماع العرب المزيد من الاهتمام بأثرياء السلطان، ورجال اعمال الدولة المحظوظين، بدل الاهتمام بشعراء البلاط ذوي الصوت العالي والقليل الاثر.

-8-


انما نكتب والحدث التونسي مفتوح على أكثر من سيناريو، والامل بأحداث شبيهة، ان لم تكن مماثلة، في غير بلد عربي لم يخبُ بعد. ونكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع بينما الغضب العاري، الاخلاقي في جوهره، يتجاوز السياسة والاقتصاد والاجتماع الى نوع من تلقائية رفض الفجور. والفجور سمة الحكم الاولى في هذه الايام العربية التي استفحلت طولا. ورفض الفجور هو شرط انتقال الخوف من ضفة الناس الى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلة الأمل.


• افتتاحية العدد الجديد (شباط) من مجلة "المستقبل العربي" الشهرية. نشرته تحت عنوان: "عن تونس".

( أستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون، ووزير ثقافة لبناني سابق



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
الملف:
نهاية السلطوية التي بدأت عام 1952؟ - بقلم السيد يسين
لئلا تذهب الثورة هباءً: تغيير طبيعة النظام أهم من تنحية الرئيس - بقلم سامر القرنشاوي
بعد تونس ومصر: هل انحسر دور الأحزاب السياسية؟ - بقلم أكرم البني
أيّ ضغط؟ - بقلم حازم صاغية
حراك الشارع العربي يفتح عصر التغيير - بقلم علي حمادة
تظاهرات لا تكره الغرب - بقلم جان دانيال
عمر أميرالاي - بقلم زياد ماجد
كرامة الشباب - بقلم حازم صاغية
غسان سلامة: إيران ليست استثناء ودور الغرب هامشي في بقاء السلطات أو زعزعتها وفي بناء التركيبة الجديدة
أكتب إليكم من ميدان التحرير – بقلم فاطمة ناعوت
النواطير مستيقظون - بقلم عقل العويط
عندما يتحرر "الرجل الصغير" فينا - بقلم منى فياض
من أجل الخبز والحرية - بقلم خالد غزال
أسئلة التحوّلات المقبلة - بقلم زياد ماجد
انهيار جدار برلين العربي؟ - بقلم محمد أبي سمرا
من كراهية الأميركان إلى إسقاط الطغيان؟ - بقلم وضاح شرارة
لا بد من رحيل العسكر – بقلم داود الشريان
محنة التحول الديموقراطي العربي – بقلم السيد يسين
الثورتان التونسية والمصرية وولادة فاعل تاريخي اسمه الشعب – حسن الشامي
حركات التحرر المواطني – بقلم ياسين الحاج صالح
مبارك والأسد:هل يعني تشابه المخاوف اختلاف المآلات؟ - بقلم خالد الدخيل
غياب القيادة قد يتحوّل عائقاً أمام حركة الشارع في مصر
جون كيري: فلنتحالف مع مصر المقبلة
طغاة أم ملائكة ؟
انتفاضة النيل ضد دكتاتورية الحزب الواحد
مصر في همهمة السجال
بعد تونس ومصر وعود الإصلاح الاستلحاقي تملأ فضاء المنطقة !
شرعية شبابية تولد في مصر؟
الاحتجاجات الشعبية في مصر تطغى على «الانقلاب السياسي» في لبنان
شباب مصر مسؤولون عن حماية ثورتهم من المتسلّقين
«صنع في الشرق الأوسط»
مصر: مقدمات الزلزال العربي
قراءة في ظاهرة الغضب الاجتماعي العربي
الخبـــث الرئاســـي
سقطت «الدولة الأمنية» ويبقى الإجهاز عليها!
أول الطريق إلى الحرية..أول الطريق إلى التغيير
اليوم مصر، وغداً... لناظره قريب
حرية..ومعايير مزدوجة
حرية المعتقد والحقوق الأساسية في لبنان والعالم العربي
تونس ومصر: هل من تمايزات؟
الانتفاضات الشعبية والمصالحة بين الديموقراطية والوطنية
مصر وأزمة التغيير العربي
إعادة فرز التحالفات والقوى السياسية في مصر
سمير قصير كان على حق
"الناس دي يمكن يكون عندها حق"
درس لسائر الشعوب في المنطقة
أكلاف الحنين
نهاية "الى الأبد"؟
اكتشاف الشعوب
اللبناني "شاهداً" و"مشاهداً" !
الإنتفاضات.. ومعانيها
لبنان تحت حكم الحزب الواحد؟
سقوط مقولة «الاستثناء العربي»: العرب يثورون للحرية
«محنة» الجمهوريات العربية!
مصر وانتفاضة تونس... الاستلهام في اتجاهات أربعة
على هامش الانتفاضات
نعم ستتغير مصر
التغيير في تونس وأسئلة الخبز والحرية حين تطرح في غير بلد عربي
معضلة الاندماج في المجتمعات العربية
الانتفاضة التونسية والحالة المصرية: نقاط لقاء وافتراق
«يوم الغضب» نقلة نوعية في المشهد الاحتجاجي المصري
رهاب الأجانب مرضٌ تعاني منه القارة الأوروبية
تونس - لبنان: في تضاد المتشابه
لبنان على الطريقة العراقية
نصف مليون سعودي يبحثون عن «أمل»
شباب الجزائر يموتون «حرقة» واحتراقاً!
لبنان أعقد...
مهمتان عاجلتان : جبهة شعبية تونسية متحدة وجبهة عربية شعبية مساندة لها
لبنان في العالم العربي: الخصوصيات ثقافية
دخول المجتمعات المشرقية عصر الدولة الوطنية والكيانات السياسية من باب "الثورة السلبية"
تونس ولبنان: فائض السياسة مقابل فائض القوة والخوف
إقصاء الحريري: تبديد مبكر لفرصة دمشق اللبنانية
بناء الأمة والانقسامات الإثنية الدينية
تونس: الأكثر أقلّ
إحياء "البورقيبية" في تونس لإخماد "ثورة الياسمين"؟
الحركات الاحتجاجية في العالم العربي ما بين السياسي والاجتماعي
لبنان بين الشراكة والأحادية
بين انتفاضة تونس ومحكمة لبنان
تسرعت الليبرالية العربية في الدفاع عن الفرد في وجه الدولة
لا تناقض بين روح الحرية ومنع التكفيريين
الحديث عن الحرية عبث ما لم يقم على أساس الفردية والتفرد
«كوتا» لا بدّ أن يلحظها الدستور كما قرّر للمرأة والفلاحين
هل اخطأ بن علي اختيار الشركاء؟
تونس تَقلِبُ المشهد السياسي العربي
"ثورة الياسمين" ليس لها تأثير الدومينو!
حزب «الوفد» يوحّد المجتمع المصري وثورة تموز تقسّمه بتوسّلها تأييد الاتجاه الديني
الانتفاضات الشبابية: سيناريو 1988 يتكرر وشباب الجزائر من «مغرر بهم» إلى «منحرفين ولصوص»
ثماني عِبر من تونس
رياء
العرب والحاجة إلى الواقعية السياسية
مفترق تونس
عن ثقافة الاحتجاج في الأردن... وحكومة وبرلمان اضطرا للاستجابة
نظرية المؤامرة والهرب من المسؤولية
الانتفاضات الشبابية: سيناريو 1988 يتكرر وشباب الجزائر من «مغرر بهم» إلى «منحرفين ولصوص»
حركة شعبية بلا أحزاب أسقطت الحكم التونسي
مثقفون جزائريون يقرأون الانتفاضة التي شهدتها مدنهم
المسؤولية عن اضطهاد أقباط مصر... هل إنها فعلاً شديدة الغموض؟
نحن نقبلهم فهل يقبلوننا؟
درس تونس: الانسداد السياسي يولّد الانفجارات
السعودية ليست دولة دينية
من نزاعات الهوية إلى الاحتجاج الاجتماعي
تقرير لمرصد الإصلاح العربي يركز على حال التعليم
على هامش جدل الرمز الديني
معضلة الحرية في مصر: الانتخابات مخرجاً من نسق الإكراه
قبط مصر: من الوداعة الى التوتر اللبناني ؟
المشهد العربي بعد انفصال جنوب السودان
المعارضة اللبنانية تطوّق نفسها دولياً
الاحتجاجات التونسية: انتفاضة عابرة أم نقطة منعطف؟
حدود مسؤولية المجتمع المصري ؟
مسؤوليتنا عن تحوّل الأقباط الى مواطنين من الدرجة الثانية
تونس ما بعد سيدي بوزيد: بداية مرحلة جديدة
التسوية في لبنان هل تطيح الحقيقة والعدالة؟
كأنّها مرحلة جديدة؟
موت يلخّص واقعاً
تونس: من أجل خروج سلمي من الأزمة
انتفاضة على الليبرالية في الجزائر!
السعودية: المرأة في ظل الخطاب «الصحوي»
الاستخدام الفصائلي لمصطلح "الجمعيات الأهلية" و"هيئات المجتمع المدني"
مركز دراسات الوحدة العربية على مشارف مرحلة جديدة
في عصر حروب دينية مرة أخرى؟
مسالك النقاش وعنف التأويل ...صورة المرأة من الخطاب إلى الحجاب
ماذا يحدث في الكويت؟
العنف الطائفي والركود السياسي في مصر!
قوانين المواطنة المصرية وتداعيات العمل الإرهابي
قوميات أحادية وحروب عدة
مسلمون ومسيحيّون و... خرافات
حقوق الإنسان أمام مرحلة جديدة
تشويه الليبرالية... بالتحريض على مثقفين أحرار
بكاء على أطلال الأقليّات
لطيفة والأخريات
فتاوى قتل المعارضين والعلاقة الملتبسة بين الدولة والإسلاميين
«ذئب وحيد»... أم صهر العشيرة وابنها؟
حالة ارتباك بين الحداثة والليبرالية
سمير قصير ونصر حامد أبو زيد طيفهما إذ يجوب المُدن والأمكنة
أحداث العالم العربي - الانتخابات العربية 2010: تأكيد الاستعصاء الديموقراطي ؟
عودة المسألة الاجتماعية إلى تونس
الأحزاب المصرية: الكل في الأخطاء سواء
مصر والبعث الجديد لظاهرة البرادعي
حال الطوارئ الحقيقية في مصر هي ديموقراطيتها المقموعة
المشايخ إذ يسيطرون على الرأي العام
مصر: مسؤوليات الرئيس والمعارضة
أشباح ساحة الشهداء
تقدم العالم العربي نحو... الأسوأ
أبعد من المحكمة الخاصة بلبنان
الإخوان المسلمون بين ملء الفراغ وإنتاجه
الليبرالية في السعودية - ردّ على الغذامي
الناقد «الموشوم» ومعركة الليبرالية – - ردّ على الغذامي
في إمكان التفاؤل بمستقبلنا
خــــــاووس
قراءة في التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية
الانفتاح: أهميته وضروراته للعالم العربي
بؤس السياسة وأزمة الحرية في مصر!
المشهد الانتخابي العربي خلال عام 2010: سقوط الموالين وخسارة المعارضين
بداية مضطربة للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين
تهجير المسيحيين العرب
سباق في لبنان بين التسوية والفتنة
الانتخابات المصرية ومأزق النظام [1]
مجتمعات عربية تحاول التهام دولها
«النظام الأساسي» هو دستور المملكة؟
الأمة والقومية والدولة في تجربتنا التاريخية
في لبنان التسوية أو البربريّة
«الإخوان المسلمون» المصريون ومسارات التحول نحو السلفية
الديموقراطيّة ... معركتها لم تبدأ عندنا بعد
60% من اللبنانيين و40% من الشيعة مع خيار العدالة
العنف ضد المرأة .. حان الوقت لكسر جدار الصمت
في تشريح أزمة الدولة الوطنية:ملاحظات على النقاش العالمي
كيف ابتلعت الانتخابات المصرية مقاعد "الاخوان"؟
الديموقراطية العربية: سلعة لا تزال قليلة العرض
هل أُسقطت "أضربوهنّ" على كل المجتمع العربي؟
عن حقوق الإنسان في المشهد العربي الراهن
الدستور بين الدولة والمؤسسة الدينية في السعودية
مصر والأردن: انتخابات تعددية نعم، لكن دون جوهر ديموقراطي أو إصلاحية !
الشيخ عبدالله المطلق والمرأة السعودية
حقوق الإنسان: ثلاث أولويات للبنان
مأزق نموذج الديموقراطية المصرية المحدودة
تراجع "الإخوان" من تراجع التيارات الإسلامية العربية
مصر: انتخابات نزع الشرعيات الثلاث
النتائج الفعلية للانتخابات البرلمانية المصرية... خسارة للجميع
مطلوب عشرون فكرة لإنقاذ العالم العربي
أميركا أميركا ... أيضاً وأيضاً
الهويات «المركبة» في الانتخابات الأردنية تبدّد أوهام صانعي قانونها
ملاحظات من وحي الانتخابات المصرية
ابن رشد ومارتن لوثر و«حوار التمدن»
العالم المفتوح... مصر المغلقة
الإخوان المسلمون خسروا غطاءً سياسياً مهماً في صراعهم مع النظام
برلمان 2010 يرسم خريطة لانتخابات الرئاسة ... لا فرص للمستقلين
فاز الحزب الوطني في مصر ... لكن البرلمان الجديد يفقد صدقية محلية ودولية
هل حقّق الحزب الوطني أهدافه في الانتخابات المصرية؟
الأدوار «الافتراضية» في الانتخابات المصرية
انتخابات» الأنظمة العربية إلى أين؟
فرسان الديموقراطية في العالم العربي ... تنقصهم الخيول
أردن ما بعد الانتخابات
ثقافة الانشقاق وأزمة الحياة الحزبية في مصر
في عجز الدولة العربية عن إنجاز تسويتها الداخلية
عن التجلّيات المتعدّدة للإسلام التاريخيّ
الإخوان المسلمون والإرهاب والإسلام السياسي
عصر ما بعد الديموقراطية: تضاؤل دور الاحزاب السياسية
العصبيات القبلية فى مصر القديمة
لمحة عن التاريخ السياسي لدائرة مصر القديمة
الملامح النهائية للمشهد الانتخابي في مصر
ما الذي تغـير هذه المرة في الانتخابات المصرية ؟
عـن مـصـر الـتـي سـتـنـتـخـب ... ومـصـر التـي لا تـكـتـرث
الدول العربية والمثقفون: أسئلة الحريات!
أزمة التعددية الإعلامية في العالم العربي
«الحزب المهيمن» في مصر والانتخابات النيابية
نعم ... الصحافة الاستقصائية ممكنة في العالم العربي
«الإخوان المسلمون» والانتخابات النيابية: أسئلة المشاركة أمام امتحان تداول افتراضي للسلطة
التطرف والإرهاب على أنقاض الدولة الوطنية
العلمانيـة وحقـوق النسـاء
في سبيـل علمانيــة لبـنانيـــة هنيّــة !
الديموقراطية معضلة عربية؟
انتخابات مجلس الشعب المصري... رصيد بلا نفاد وقعر بلا قاع
مصر: تشوهات الحياة السياسية كما تظهرها البرامج الانتخابية
في تفسير الانتخابات العربية
مصر: كيف نقاطع بإيجابية أو نشارك بحذر ؟
كيف نفهم حقوق المرأة وكرامتها؟
مشاهدات سريعة على أبواب المحاكم الشرعية اللبنانية
عن كتيّبات القضايا العامة
دور المحرّك/ الميسّر ومهامه
استراتيجيات عمل حركة
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة