العالم العربي، ولربما الاسلامي، كله في ورطة تاريخية. لعل التاريخ العربي-الاسلامي في ورطة، او هو نفسه هذه الورطة. دولة ما بعد الاستعمار، كما تسمى في الادبيات العالمية، اعطت العلمانية وسلبت الديموقراطية. ودولة ما بعد دولة الاستعمار، تقدم الديموقراطية، وتسلب العلمانية، او تتهيأ لسلبها. اول الغيث إطلاق الأذان في قاعة البرلمان المصري، بعد صعود عدد من مؤذّني الجوامع الى مرتبة نواب، الذين لم يتلبسوا بعد مهمتهم كمشرعين، وبقوا في جبة المهنة السابقة، لتعميم شعار مزج «الدين والدولة» معاً.
قبلئذ، بشر المستشار الليبي، السيد عبدالجليل، جمهوره بأن لا قيود على تعدد الزوجات بعد اليوم، ملبياً بذلك رغائب الايروس الذكوري، بوصفه القمة المرتجاة. ويلهج قادة اسلاميون كثر، تطميناً للجمهور القلق، بفكرة الدولة المدنية بـ «مرجعية اسلامية». وهذا تناقض في التعريف: قبل نحو اربعة عقود نبهنا مفكر ايراني، مختص بالفلسفة، إلى ان تعبير «جمهورية اسلامية» هو تناقض في التعريف. فالمفهوم الأول (جمهورية)، يقوم على قاعدة الشعب مصدر السلطات، اما مفهوم «الاسلامية» فيقوم على قاعدة ان الحاكمية لله وحده. هذا الموقف قديم، يرجع الى لحظة التماس بين الحضارة العربية-الاسلامية الساهية النائمة، والحضارة الغربية الصاعدة، الجامحة منذ اواخر القرن الـ19. ثلة قليلة من المفكرين الاسلاميين فتحت باب الاجتهاد على الحريات الحديثة. مثل: جمال الدين الافغاني ومحمد عبده (المشرق العربي) وخير الدين التونسي (تونس)، وعبدالرحمن الكواكبي (سورية) وشاه ولي الله (الهند - باكستان)، دعت الى الدستورية، والبرلمانية لتقييد الملوك والسلاطين، منذ اواخر القرن التاسع عشر. اما في مطلع القرن العشرين، فإن الثورة المشروطية الايرانية حظيت بدعم المراجع الشيعية الكبرى في النجف لدعم المشروطية (الدستورية) على قاعدة مصلحة الجماعة المدرجة في متون الفقه، فأسست فقهاً للحريات الحديثة جوبه بمعارضة ضارية. الجيل اللاحق تراجع عن هذه النقلة الحضارية، ولعل ابرز ممثليها هم ابو الاعلى المودودي (باكستان) وسيد قطب (مصر) والخميني (ايران). وتمثل مسألة مصدر الحاكمية، الشعب ام سواه، نقطة افتراق الاسلامي عن الحداثي، وإن كان الاسلامي لا يخلو من نبتات فكرية ذات منحى حديث. اما نقطة الافتراق الثانية فهي فكرة التشريع البشري، المدنس، وفق التوصيف الإسلامي، مقابل التشريع الشرعي، المقدس ايضاً بالتوصيف ذاته. الإشكال هنا يدور حول الموقف من الشريعة، هل هي مصدر اساس للتشريع (المصدر في حالة تنكير)، بمعنى وجود مصادر اساسية اخرى؟ ام هي المصدر الاساسي (بألف لام التعريف) للتشريع، بمعنى غياب اي مصدر اساسي آخر؟ ام ان التشريع يقوم على «ثوابت أحكام الاسلام»، حيث يدور الحديث لا عن الشريعة، بل عن الأحكام، وليس عن الاحكام بل الثابت منها. هذه التلاوين من الصيغ التي يسيل في رحاها مداد الأقلام وتسود الصحائف بلا انقطاع، هي معركة الانفتاح الحضاري إزاء الانغلاق المحافظ. وكل واحدة من هذه الصيغ تعين لنا تخوم التوازن القائم بين معسكرين او اكثر، في اية لحظة معطاة. نعرف تعدد الفرق والمذاهب في الاسلام، وتعدد الرؤى داخل اية فرقة او مذهب. هذا التعدد بذاته يجعل من متن مادة الشريعة، والأحكام، موضعاً للتأويلات والتأويلات المضادة. المطب في ذلك، ليس التأويل نفسه، بل الحق في التأويل، وهو حق بشري، يتنازعه الاكليروس والمثقفون هنا، او يتنازعه المحافظون والحداثيون هناك. واضح ان حصر حق التأويل بمجموعة صغيرة، او حزب محدد، يعني، بداهة، تجريد كل من عداهم من هذا الحق. فيصير بذلك ضرباً من الواحدية المتشحة بمسوح العصمة. عدا عن حقول مصدر السلطات، والحق في التشريع، ثمة إشكال ثالث: المساواة، فالافراد في مجتمع الدولة الحديثة هم مونادات مستقلة، لها حق المساواة السياسية والقانونية، بصرف النظر عن الدين، او المذهب. وهذا يتعارض مع مفهوم «اهل الذمة» لجهة غير المسلمين، كما يتعارض مع مفهوم «الفرقة الناجية» لجهة انقسام المسلمين مذهبياً، وانقسام المذهب الواحد فرقاً. التأويل القديم، إن طبق، يخلع النسيج الاجتماعي لبناء الامة، وهو بناء ضعيف من جراء ضعف كل آليات التكامل والاندراج الصانعة للامم. لا مراء في ان ثمة مفكرين اسلاميين يتقبلون مبادئ المواطنة الحديثة، لكنهم ليسوا سوى أقلية. الحقل الرابع للتنافر يدور حول المرأة-العورة، او المرأة-العار، العار في سفور شعر رأسها، والعار في اختلاط الجنسين، والعار في الملبس، وفي المصافحة العادية، بل العار في ان تكون لها حرية اختيار زوج، او حتى تحديد سن الزواج (من 9 الى 13 سنة في اطار الاسلاميين). فالايروس الذكوري المنفلت لا يرضى بغير تعدد الجواري، وخضوعهن المطلق له. وأخيراً، وليس آخراً، جل الاسلاميين (باستثناء قلة) ضد الحريات المدنية، يصل بعضهم الى تحريم الموسيقى، وتحريم التلفزيون، (والصحون اللاقطة بالتبعية)، وغلق دور السينما، وحظر استخدام الانترنت، مروراً باللباس وانتهاء بغيره. ارتداء سروال جينز يكلف المرء حياته احياناً! أسلاف هؤلاء كانوا يرمون بالحجارة كل من يخلع الطربوش، او السدارة فيمشي حاسر الرأس، ناظرين اليه إنساناً بلا شرف او قيمة! بعد كل هذا، وفوق كل هذا، تشيع «حكمة» مفادها ان وصول الاسلاميين الى الحكم سيدفعهم الى الواقعية، اي الخروج من جبة الايديولوجيا الصارمة، الى الانفتاح الرحب. هذه حكمة زائفة، تشجع المجتمع على قبول وصول التزمت الاسلامي الى الحكم طريقاً للفكاك من التزمت. الواقع ان الوصول الى مدارج السلطة سيمنح هذه القوى وسائل فعالة اكبر لفرض تأويلها الخاص. والفكاك لا يأتي من التسامح مع وصول الاصولية الى الحكم، بل معارضة هذا الوصول عينه، بصراع دائم لا يكل. الحسنة الوحيدة لا تكمن في وصول الاسلام السياسي للسلطة، بل في طريقة هذا الوصول: صناديق الاقتراع، لا الانقلابات العسكرية، اي شرعية الناخب لا قانون البندقية. وهذا يعني امكانية استخدام المجال السياسي المفتوح للمعارضة، والاعتراض على التشدد السياسي والمجتمعي والقيمي، من جانب، وحاجة الاصوليين الى تجديد التفويض التي يمكن ان تدفعهم الى نوع من البراغماتية، وهذه البراغماتية لن تأتي طوعاً، بل هي ثمرة قوة الاعتراض ليس إلا. بخلاف ذلك لا يسع المراقب ان ينعم بشيء من التفاؤل.
|