عبد المنعم سعيد قولان سادا في مقالات ناقدة صراحة أو ضمنا لجولة الانتخابات الجارية في مصر هذه الأيام: الأول أن مصر كانت في أسعد أحوالها الانتخابية قبل ثورة يوليو 1952 حيث الانتخابات حرة، والنواب من النخبة المثقفة الواعية العالمة بمصالح البلاد والتي تماثل في تقاليدها تلك الواقفة في مجلس العموم البريطاني أو بين أرجاء الكونغرس الأميركي. وكان ذلك هو الحال حتى جاءت الثورة فأقامت نظاما بقي على حاله دون تغيير طوال ستة عقود؛ فما كانت هناك انتخابات، وما كان هناك نواب. والثاني لم يعتد كثيرا بما جرى من قبل، ولكن اعتداده كان بما جاء بعد ثورة يوليو أو حتى العقود الأخيرة حيث انتقلت التقاليد والأوهام ذاتها وحتى الوقائع بين أركان النخبة اتفاقا وانقساما، وكأن الزمن الذي لا يبقي شيئا على حاله شاء أن يغير مساره فيبقي أحوال مصر السياسية دون تغيير أو تبديل.
القولان اختلفا على المدى الزمني، وبينما كان في الأول حنين وشجن لسابق الأيام الملكية، فإن الثاني كان متحسرا على الزمن الجمهوري. ولكنهما اتفقا على معنى التغيير، الذي لم يعد تراكما من المتغيرات البسيطة والمعقدة، وإنما نقلة كيفية في الأحوال لا تقل أبدا عن صراخ طفل وليد. كما اتفقا أيضا على أنه إذا كان الحال كذلك الآن فعلام تلك الضجة الكبيرة حول الانتخابات التشريعية المقبلة مادام سوف يلحق من نتائج لن يختلف كثيرا عما سبق من حصاد؟! وأخيرا فقد جرى اتفاق على وجود انفصام تام في الدولة المصرية قبل وبعد عام 1952 دون اعتراف بأن استمرارية الدولة، وتقاليدها، قد بقيت راسخة حتى لو تغيرت أشكال وشخصيات.
وبالنسبة للقول الأول فربما كان الأمر كله لينتهي لو قام قائله بقراءة رواية الكاتب الكبير توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف" التي عايش فيها جوانب من المجتمع القروي المصري قبل عام 1952 الذي لحق به البلاء بدءا من الفقر الذي يدفع الفلاح لسرقة كوز ذرة، مرورا بحلاق الصحة الذي يحصل على تصريح الدفن من طبيب الصحة دون معاينة جثة المتوفي نظير حصوله على خمسة قروش، ومأمور المركز الذي يسعى وراء ولائم العمدة في أحداث الجرائم ويفتح السجون على ذراعيها لملئها وقت الحاجة، وانتهاء بتزوير الانتخابات لإنجاح مرشح الحكومة.
فالناس تضع ما تشاء في صناديق الانتخابات من أصوات، ولكنها بعد إلقائها في الترعة سوف تحل محلها صناديق أخرى تعبر عن رأي من بيده السلطة. لم تكن الحالة وردية كما يجري الظن، وكانت النخبة قشرة صغيرة منقسمة تطفو على سطح طبقة وسطى صغيرة القدر، بينما كان العمر المتوقع عند الميلاد للشعب المصري لا يصل الى خمسين عاما. ولو كانت الأحوال بمثل تلك السعادة والهمة التي تلم بمصر فلماذا استمر الاحتلال الإنكليزي، ولماذا جرت هزيمة عام 1948، ولماذا لم يصبح التعليم كالماء والهواء كما طالب طه حسين في نهاية العهد بينما كانت اليابان قد جعلته كذلك منذ عام 1906؟
ولكن تفاصيل ما قبل عام 1952 ليست موضوعنا، ولا حتى تفاصيل ما بعد هذا العام هي موضع الاهتمام هنا، لأن الدولة المصرية جرى تطورها عبر العهدين بطريقتها الخاصة المنتمية الى جذورها التي وضعها محمد علي، وشكلها إعلان الاستقلال المصري عام 1922، وبعد ذلك جرت عمليات كثيرة من التكيف والتطور مع أحوال دولية وإقليمية متغيرة، وانقلابات تكنولوجية ثورية، وطفرات في الكم والكيف السكاني المصري، حتى وصلنا الى عام 2010 وانتخاباته التشريعية. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة جرت في مصر مجموعة من التغيرات الجوهرية التي كان لا بد لها أن تلقي بتأثيراتها على الساحة السياسية أيضا. فمن الناحية الأمنية والإستراتيجية جرى لمصر نوعان من التطور المهم: الأول كان توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 والجلاء الاسرائيلي عن سيناء 1982، ولأول مرة منذ بضعة آلاف من السنين لم تعد مصر محتلة من أجنبي ولا يحكمها أجنبي؛ وحتى دون مقارنة مع سنوات بعيدة فقد كان الاحتلال الإنكليزي جاثما خلال الفترة من 1922 حتى 1952، كما بقي هذا الاحتلال خلال الفترة من 1952 حتى عام 1956، بينما جري احتلال سيناء مرتين بين تشرين الأول 1956 وآذار 1957؛ ثم مرة أخرى بين حزيران 1967 ونيسان 1982 وحينها أصبحت أرض مصر حرة. والثاني انه خلال هذه العقود الثلاثة ذاتها انتصرت الدولة المصرية على الخطر الإرهابي الذي سرعان ما أصبح لعنة على العالم كله.
ومن الناحية الاقتصادية تغيرت مصر كثيرا على الأقل عما كانت عليه قبل ثلاثة عقود، وأخذ التغيير بضعة أشكال، أولها عودة القطاع الخاص مرة أخرى الى العمل في مصر، وخلال العقد الأخير بلغت مساهمته في الاقتصاد القومي مابين حوالى 62% و73% من الناتج المحلي الإجمالي، وبمعدل نمو سنوي قدره 7.8% في المتوسط. وثانيها أن هذه المساهمة من القطاع الخاص جعلت الاقتصاد المصري أكثر حيوية وتنوعا عما كان عليه من قبل، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي 215.845 مليار دولار في عام 2010، بحيث أصبح نصيب الفرد 2752 دولارا (قارن ذلك بمتوسط قدره 300 دولار عام 1980). ولو تم حساب ذلك بالقوة الشرائية للدولار لبلغ الناتج المحلي الإجمالي 496.604 مليار دولار ولبلغ متوسط نصيب الفرد 6.347 آلاف دولار.
ومن الناحية الاجتماعية لم تعد مصر كما كانت، وبعد أن كان عدد سكانها 40 مليون نسمة عام1980، فقد أصبحت نحو 79 مليون نسمة من المقيمين مضافا لهم ما بين 7 و8 ملايين من المغتربين في عام 2010، غالبيتهم من الشباب الذين يعملون لدى القطاع الخاص. ورغم أن 20% من المصريين لا يزالون فقراء، فإن الغالبية - 80% - تعيش فوق حد الفقر، وأصبحت نسبة المتعلمين منهم 72% مقارنة بنسبة 25% عام 1960، و40% عام 1980، أما العمر المتوقع عند الميلاد لهم فقد أصبح 72 عاما مقارنا بسبعة وخمسين عاما في عام 1980.
مثل هذه التغيرات لا يمكن إهمالها من جانب، كما لا يمكن تصور غياب تأثيراتها على التطور السياسي المصري. فبدون هذه التطورات لم يكن ممكنا أن يزيد حجم المجتمع المدني المصري وتأثيراته السياسية والاجتماعية حتى يصل الى ما يقرب من 30 ألف منظمة ورابطة. وفي الوقت نفسه لم يكن ممكنا وجود ذلك التطور المذهل في الإعلام المصري ليس فقط في ميادين الصحافة المطبوعة حيث بلغت ما يزيد على 500 مطبوعة من بينها 21 صحيفة يومية، ولكن أيضا الإعلام التلفزيوني الخاص حيث بلغ إجمالي عدد قنوات التلفزيون المصرية التي تبث عبر "النايل سات" 54 قناة حتى حزيران 2010.
جميع هذه التطورات لا يمكن أن تحدث في أي من بلدان العالم دون أن تترك آثارا على النظام السياسي كله. ولا جدال أن هناك من يرى أن هذه التطورات كانت أقل مما كان ممكنا، وأن بلدانا أخرى حققت أكثر مما حققناه، ولكن التسليم بذلك أمر، وإنكار وجود التغيرات على الساحة المصرية أمر آخر. ومن الجائز جدا أن جزءا من سبب ما جرى كان راجعا الى أن الإعجاب المصري بالتجارب التركية والماليزية والكورية الجنوبية لم يلازمه إعجاب مماثل بالوسائل التي تم اتباعها، واستعداد مقابل لدفع الثمن المطلوب لهذه الإنجازات في الدول الأخرى، أو القبول بفكرة أن التقدم يقوم على إدارة
الثروة وليس العمل على تجنب الفقر وآثاره. ومع ذلك فإن ما جرى في مصر ليس بقليل خاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث بدأت مصر تسرع الخطى على عدد من الجبهات الاقتصادية والسياسية التي ظهرت كلها في التقارير الدولية المختلفة سواء تلك المتعلقة بالموارد البشرية أو التنافسية أو مناخ المشروعات والأعمال. وعندما يضاف أربعة ملايين شاب الى أصحاب المشروعات المتوسطة والصغيرة، ويصبح 95% من فرص العمل التي أتيحت لأربعة ملايين نسمة عاملين لدى القطاع الخاص فإن معنى ذلك أن مسيرة التغير في الطبقة الاقتصادية تسير في طريقها الذي بدأته منذ ثلاثة عقود. وعندما يتمكن المجتمع من مواصلة النمو الاقتصادي الإيجابي رغم الأزمة المالية العالمية وبمعدلات نمو إيجابية فإن معنى ذلك أن الخيارات المتاحة لدى المصريين سوف تستمر في التزايد خلال المرحلة المقبلة.
ومن الناحية السياسية البحتة فقد جرت مجموعة من التغيرات التي لا يمكن تجاهلها. أولها أن ثورة صامتة قد جرت في الحزب الوطني الديموقراطي خلال الأعوام الأخيرة سواء من الناحية الفكرية أو التنظيمية. ورغم أن الحزب في العموم قد خرج من عباءة الأحزاب الأيديولوجية الى شكل أشبه بجبهة وطنية شاملة لكل ألوان الطيف الفكرية، إلا أنه نجح في خلق حالة من التوافق العام حول الحد الأدنى من السياسات التي يتعايش معها الجميع ممن يتحمسون لمبررات التقدم، وممن يصرون على ضرورات العدالة. ولكن ما لا يقل أهمية عن الفكر قد كان بناء آلة تنظيمية دقيقة يقودها شباب الحزب من خلال استخدام التكنولوجيات الرقمية الجديدة؛ وهذه الآلة قادرة على الحشد والتعبئة في بيئات مختلفة حضرية وريفية. وكان هذا التغيير على جانبيه استجابة لحقائق مرة، فرغم كل ما يقال عن قيام الحزب بتزوير الانتخابات فإنه في الحقيقة لم يحصل إلا على 40% من الأصوات عام 1995 و38% عام 2000، و32% عام 2005 ولولا أن الحزب ظل يمثل الوسط السياسي المصري وفقا للصيغة التي أشرنا اليها لما جذب اليه نخبة المستقلين حينما انضم اليه 145 عضوا في عام 2000 و218 عضوا في عام 2005.
وثانيها أن كتلة الأحزاب المدنية التي تعرضت لضربة بالغة في انتخابات عام 2005 قد استعادت بعضا من قوتها خلال العام الأخير بعدما ثارت على محاولات جر المعارضة المصرية الى مقاعد هوامش السياسة المصرية. وربما كانت النقطة الفاصلة في هذا التحول تلك الانتخابات الرئاسية التي جرت داخل حزب الوفد والتي أعطته قيادة ديناميكية مسلحة بالإمكانيات والكوادر والقدرات الإعلامية حتى ان عضويته في مجلس الشعب ارتفعت فجأة من خمسة أعضاء الى أربعة عشر عضوا. وكان هذا النجاح هو ما جعل التحالف بين أحزاب الوفد والتجمع والناصري يصبح قادرا على توسيع قاعدة الوسط السياسي المصري وضخ دماء جديدة لها. ولم يخسر هذا التحالف كثيرا في غياب حزب الجبهة الديموقراطية الذي لم يكن لديه في أي وقت عضو واحد في مجلس الشعب، ولم يكن باديا عليه أنه سوف يكون قادرا على ذلك وعدد أعضائه لا يتجاوز ثلاثة آلاف عضو منقسمين ما بين من يريدون المشاركة، ومن ظنوا أن في المقاطعة مكانا تلفزيونيا متفردا.
وثالثها أن جماعة الإخوان المسلمين المحظورة تنظيميا والمشروعة أفرادا لهم فكرهم الخاص قد تراجعت حالها نتيجة مجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية. فالأداء الذي كان لأعضاء الجماعة في مجلس الشعب كان متواضعا بعد أن ركزوا على المشاكسة السياسية بأكثر من المراجعة للقوانين. والبرنامج الذي طرحته الجماعة على سبيل التجربة أفصح عن رفضها للطبيعة المدنية للدولة المصرية المعاصرة وسعيها الى دولة دينية نقية وصافية. والتغييرات التنظيمية التي جرت داخل الإخوان كلها قادت الجماعة الى مزيد من المحافظة والتبعية لتجارب فاشلة في إيران والسودان وفلسطين. وأخيرا كان موقف الجماعة منحرفا عن التوافق المصري العام الذي يجعل المصالح الوطنية المصرية العليا فوق كل الاعتبارات الأخرى.
ورابعها أن مجموعة من التطورات المتلاحقة لضبط العملية الانتخابية قد أصبحت أكثر تأثيرا يوما بعد يوم. ورغم أن التوافق المصري العام تقريبا لكل الأحزاب والجماعات دون استثناء جرى على رفض الرقابة الأجنبية، فقد دخلت سلسلة من الإجراءات البديلة مرحلة النضج بأكثر مما كانت عليه الحال في السابق. ولم يتوقف الأمر فقط على الصناديق الزجاجية التي بدأ استخدامها منذ عام 2005، أو استخدام الحبر غير القابل للإزالة الذي بدأ في التوقيت ذاته؛ ولكن دخل الى الساحة الإعلام الداخلي والخارجي بكل أشكاله وألوانه، ومعهما المجتمع المدني الداخلي والخارجي بكل أشكاله وألوانه، ومع كل ذلك الرقابة القضائية سواء تلك الآتية من اللجنة العليا للانتخابات، أو من القضاة الساهرين على حماية العملية الانتخابية، أو من القضاء الإداري الذي اكتسب مساحات قضائية ذات نتائج سياسية لم تكن معتادة على العمل السياسي المصري منذ وقت طويل.
هل بعد ذلك كله تبدو الساحة المصرية السياسية دون تغيير يذكر كما يشيع في بعض الكتابات المصرية، وكما يجري تبني هذه الأفكار بين جماعات أجنبية منتشرة بين واشنطن وعواصم غربية أخرى بات التغيير الوحيد الذي يجعلهم على استعداد لقبول سريان التغيير في مصر هو إطاحة الحزب الوطني الديموقراطي من الحكم والسلطة؟ مثل هذا المعيار لا يمكن قبوله لا فكريا ولا نظريا ولا عمليا، ليس فقط لأن الشعب المصري وحده هو صاحب التغيير، ولكن لأن الحزب الوطني الديموقراطي لديه برنامج انتخابي قوي يقدمه للشعب المصري، وفوقه تجربة عملية أبقت مصر بعيدة عن المغامرة والمقامرة بمصير الأرض والشعب، كما دفعت بالشعب المصري درجات على سلم التقدم كما أسلفنا. قد يكون لدى الأحزاب الأخرى أفكار أكثر تقدما مما لدى الحزب الوطني، ولذلك كانت الانتخابات العامة حتى يتنافس المتنافسون. ولكن السؤال هو لماذا حتى الآن لم تظهر فكرة واحدة جديدة للإصلاح والتنمية والحفاظ على الأمن القومي تحوز على قبول الشعب ورضاه؟ دعونا نراقب الانتخابات ثم نعد مرة أخرى.
( رئيس مجلس ادارة جريدة "الأهرام" المصرية)
|