راجح الخوري
يكشف الهلع الذي يضرب عددا كبيرا من الحكام والانظمة في الشرق الاوسط، أن هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم أباطرة يدوسون على رقاب الشعوب، يدركون ضمنا المدى المتوحش الذي وصلوا اليه وهم يراكمون طغيانهم وثرواتهم من فقر الناس وبؤس المواطنين وخوفهم، سواء كانوا في الاعتقال أو النفي او الإبعاد أو في القبور، وسواء كانوا في بيوتهم يطلبون السترة و"يقطعون" ألسنتهم خوفا من بطش النظام والاجهزة والبطانة، وخوفا من الجدران التي لها آذان تحصي على الناس أقوالهم والانفاس!
في تونس ومصر انكسرت "الشرنقة الحديد" التي تم احتجاز الشعب في داخلها عقودا من الزمن، تلك الشرنقة التي جعلت العرب على قارعة التقدم والنمو ليصيروا منطقة المسحوقين والمهمشين، بينما الانظمة مجرد عروش وطواويس، ترفع باليمنى لافتات الشعارات والنضالات والاكاذيب طبعا، وتدير باليسرى آليات نظام يمص دم الناس. ❒❒❒ انكسار "الشرنقة الحديد" خلق أمرين لم تحسب لهما الانظمة حساباً: أولا: انفجار المعرفة وترويجها داخل المجتمعات عبر وسائل الاعلام وتقنيات الاتصال الحديثة، حيث في وسع كاميرا يحملها طفل ان تنقل الى العالم ما يفعله الطاغوت وعسس السلطة في الشوارع ضد الناس. وثانيا: سقوط الخوف الفردي، لأن الاعتراض شامل وجامل كما يقال، ولأن لا تراجع عن التغيير. والجماعة لا الفرد في وجه النظام. اذاً "الشرق الاوسط الجديد" لا يولد الآن كما يقال، بل يكتشف أنه قادر، وأن بوابة القدرة هي التغيير، وإسقاط آباء الهول في بلدان كثيرة.
حتمية انتصار التغيير أكدتها صورة المضحك – المبكي عندما اندفعت الجمال والخيول الى ميدان التحرير في القاهرة لطرد المنتفضين، وهم شباب ثورة المعرفة وتقنية المعلومات، وإن كان قد اندسّ بينهم عدد لا بأس به من الانتهازيين والنفعيين والمصطادين في المياه العكرة والذين يريدون الهبوط بالمظلات الى الرئاسة! الجمال والخيول أسلحة ثقيلة في مواجهة كاميرات الهواتف الصغيرة، التي تنقل الى العالم صورة ما يجري بين مطالبين بالتغيير والحرية وبين تحالف حيتان يحميه النظام ويريد سحق كل اعتراض واعتراض كل تغيير. ❒❒❒ انكسرت الشرنقة في تونس ومصر، وثمة شرانق أخرى بدأت الارض تهتز من تحتها. طبعا كل هذا مفهوم، لكن المضحك أن الأمر في معناه العميق ليس مفهوما عند عدد غير قليل من هؤلاء الحكام، الذين انخرطوا في استلحاق استباقي مع شعوبهم فارتفعت وعود الاصلاح في معظم دول المنطقة، من الجزائر الى اليمن مرورا طبعا بمصر والاردن والسودان وحتى في فلسطين بين غزة والقطاع (!) الإصلاح... والتغيير؟ ولكأن الاصلاح مجرد علبة سرية وسحرية نقفل عليها في الخزانة ويكفي الآن ان نسرع اليها نفتحها ونعرضها على الناس فيلوذون بصمت ويعودون راضين الى منازلهم. لا، الاصلاح ليس استعراضا خادعا هنا، أو برقع عفة لستر الفجور هناك. ولا هو صيغة او معادلة تصلح لكل الحالات. في دول قليلة جدا جدا في هذه المنطقة، يمكن قطار الاصلاح ان يحمل ركابا من السيئين التائبين اذا غيروا من أحوالهم، بما يوفر على المجتمع البداية من الصفر لبناء نظام جديد. لكن الاصلاح في دول عربية كثيرة يعني الاقتلاع. يعني قلب الصفحة. يعني هدم النظام وبناء نظام جديد. يعني بروز مسؤولين يخدمون الناس وسياسيين مؤتمنين أمينين على مطالب المواطنين وطموحاتهم. ❒❒❒ أمام كل هذا، وهو من المسلّمات، يكاد المرء ان يقلب على ظهره من العجب لا من الشماتة أو الضحك، عندما يقرأ مثلا كلام بعض رؤساء الانظمة وهم يعدون بـ"الاصلاح". ولكن ماذا يعني الاصلاح في هذه البلدان؟ ❒ إنه يعني لا تجديد ولا تمديد ولا توريث وهو ما يتسابق بعض الزعماء الآن على الوعد به! ❒ وهو يعني مصادرة الثروات المنهوبة والارصدة الفلكية للحكام وبطانتهم (ثروة عائلة حسني مبارك وصلت الى 48 مليار دولار كما قيل والله أعلم!). ❒ وهو يعني حل الحزب الحاكم الذي يختصر رغبة الشعب وإرادة المواطنين، وتتربع على عرشه كرسي القائد العظيم. ❒ وهو يعني حل المجالس التمثيلية الصورية التي ليس لها من وظيفة غير الايحاء بأن الشعب هو الذي قرر، بينما الشعب ينوء داخل الشرنقة الفولاذية. ❒ وهو يعني فتح ملفات السرقات والنصب والسمسرة والاحتيال وأكل مال الدولة ونهب الخزينة "العامة". ❒ ويعني ايضا "تبييض السجون". تعجبني جدا كلمة "تبييض" هنا، لشدة الحلكة الطاغية. ويعني ايضا فتح ملفات البطش والمظالم، التي نزلت بالناس الذين اعترضوا على نظام "الشرنقة الحديد". واذا كان كل هذا مطلوبا ليكون الاصلاح الذي يتحدث عنه الآن عدد من الزعماء إصلاحا حقيقيا، فماذا يبقى من النظام ويمكن اصلاحه؟ لا شيء. الاصلاح في الانظمة أحيانا مثل محاولة الاصلاح في الابنية الآيلة الى السقوط: الهدم والبناء من جديد.
|