إذا قرر المرء أن يعيد تجميع وقائع الأداء السلفي العام بعد تصدر السلفيين برلمانات عددٍ من المجتمعات والدول العربية ومنابرها وشاشاتها، فسيخرج بسيناريو كوميدي ومأسوي في آن، بدءاً من واقعة رفع الأذان على نحو مفاجئ في جلسة مناقشة في البرلمان المصري، مروراً بهاجس ختان النساء في تونس، وصولاً إلى واقعة أنف النائب عن حزب النور السلفي أنور البلكيمي الذي ادعى أنه تعرض لاعتداء ليتبين للشرطة أنه أقدم على عملية تجميل لتصغير أنفه. وفي هذا السياق يمكن إدراج مشهد الفنان فضل شاكر إلى جانب أحمد الأسير في لبنان، من دون أن نغفل احتمالات شطط إخواني في الهزل السلفي على نحو ما أتحفتنا النائبة الإخوانية... عندما قالت إن لا داعي لتعديل قوانين الطلاق لأن مجتمعاً يحكمه «الإخوان» لن يشهد طلاقاً. والحال إن الأمر لا يقتصر على الهزل، فظاهرة تصدر شيوخ السلفية المشهد العام ستولّد من دون شك مفارقات ناجمة عن صدور هؤلاء عن خبرات اجتماعية خارجة عن متوسط المعهود والمقبول في شعائرنا، تلك التي نتدبر ونُصرّف فيها عيشنا العادي. لنتأمل قليلاً الخبرات الاجتماعية والثقافية التي صدر عنها شيوخ السلفية في البرلمانات وعلى الشاشات، وسيدهشنا من دون شك حجم المفارقات التي سيحدثها تصدرهم الحياة العامة. رفع الأذان في قاعة البرلمان وفي لحظة نقاش برنامج حكومي، كم يبدو عملاً عديم الصلة بالتشريع الذي أنيط بالنائب المنتخب، وجهله هذه المفارقة جزء من جهل أعم وأوسع. جهل يشمل ما نرتدي من ثياب وما نأكل وما نتذوق وما نفكر. والنائب المؤذن فعل ذلك معتقداً أن لا صوت يعلو فوق صوت الأذان، وهو في الوقـــت ذاته فعله ساعياً لرفع صوته فقط وليس لرفع الأذان، ذاك أن رئيسه، وهو من «الإخوان المسلمين»، قال له مؤنباً إن في مجلس الشعب مسجداً ويمكن لمن يرغب في الصلاة أن يتوجه إليه. واقعة عملية تجميل أنف النائب السلفي جزء من منظومة الجهل ذاتها، فتعريض وجه شخصية عامة للتغيير، والسعي الركيك لاستثمار الضمادات على الوجه لجذب اهتمام وسائل الإعلام، فعلتان استمد نائبنا جرأة الإقدام عليهما مستعيناً بانقطاعه عن مسلمات يومية وعادية لا يحتاج المرء لتفادي الاصطدام بها إلى الكثير من الذكاء. لعلها سذاجة المنقطعين عما يجري حولهم، وهم، بهذا المعنى، خطأ عابر ارتكبه المقترعون لهم عندما استيقظوا في الصباح على صناديق اقتراع مشرّعة لأصواتهم. ليست الوقائع الصغيرة للسلفية البرلمانية ولنظيرتها التلفزيونية أمراً عديم الدلالة. إنها جوهر الظاهرة وليست هامشها. فذاك الشيخ الذي تستضيفه الشاشة مقرّعاً الآباء لإقدامهم على «الاختلاء ببناتهم» ومتهماً البنات بإغواء آبائهم، لم يكن ليقدم على فعل ما فعل لولا جهله بأن ذلك سيولد ذهولاً لدى شرائح واسعة من المشاهدين، ومن بينهم متدينون يعرفون أن اختلاء الرجل بابنته ليس حراماً. ولعل الذروة في الهزل السلفي، وإن انطوى على بعد مأسوي، يتمثل في الفتوى التلفزيونية التي أحل فيها أحد هؤلاء الشيوخ «إرضاع الكبير». فتحويل الفتوى إلى مشهد متخيل قد يفوق قدرات أعلى الكفاءات الكوميدية قوة وفعالية، وأن يفوت صاحب الفتوى هذا المضمون لفتواه، فدلالة ذلك كبيرة على صعيد القطيعة بينه وبين بداهات حياتنا العادية. والشاشات كذلك لا تخلو من سذاجة في انقطاعها عما يدور فيها وحولها. فهي بصفتها وسيلة فعالة في نقل المشهد ونشر الدعوة، فاتها أنه لا يمكن جعل الهزل والتهافت مضموناً من السهل مراكمته في وعي وفي وجدان، إلا إذا افترضنا أننا وصلنا إلى درك يمكن فيه تحويل الجهل رصيداً وخبرة اجتماعية وثقافية. ماذا يعني أن يُقدم نائب على عملية تجميل لأنفه وأن يدعي بعدها انه تعــــرض لاعتداء؟ يحتاج ليُقدم على ذلك إلــــى أمريـــن: إلى شجاعة وإلى جهل، وأن يدغمهما في بعضهما بعضاً. هنا يضيــــق الفـــارق بين الهزلي والمأسوي. فالجهل مختلط بالشجاعة يعنـــي احتــمالات كومـــيدية مثلما جرى مع أنف النائب، ويعنـــــي احتمالات قتل على نحو ما جرى في 11 أيلول(سبتمبر). هذا التهافت الصادم في الأداء لدى السلفيين خصوصاً، والذي لم ينجُ منه «الإخوان المسلمون»، يعيد النقاش في مسألة صعودهم إلى بداهات كنا نعتقد أن الشأن العام تجاوزها. ثمة ردة إلى ما قبل الإسلام، وإلى التباس «الشريعة» بالطقس الاجتماعي والسياسي. ختان البنات مثلاً، هو نقاش في ما قبل الشريعة، وإرضاع الكبير انتكاس في التشريع، والشيوخ المرتجلون في المجالس النيابية أقل تماسكاً، ويبدو أن التلفزيون بصدد ابتذال السلفية على نحو ما ابتذل السلع والسياسة والفنون.
سريعاً ما باشر الإسلاميون إخفاقاتهم على أكثـــــر من مستوى وصعيد. صحــــيح أنه لم يجر اختبارهم على صعد أخــــفق فيها غيرهم كمستويات الفساد والعلاقة مع مكونات المجتمعات، ولكن ثمـــة مؤشرات أخرى، منها مؤشر الحكـــومة التونسية التي شكلتها حركة النهضة الإسلامية والتي افتتحت عهدها بمقدار من الأخطاء الجوهرية، وهـــنـــاك مؤشر تجربة حكومة «حماس» في قطاع غزة بصفتها نموذجاً عن حكومة إسلاميين أخفق على نحو جلي في إدارة شؤون الناس وفي فهمها. واليوم يُضاف فشل أكثر جوهرية ودلالة يتمثل في مَن وصل من الإسلاميين إلى البرلمانات، ونماذجهم حتى الآن لا تخاطب متوسط مداركنا، وهي وإن خاطبت في بعض الأحيان ميلنا إلى الضحك، فإنه ضحك يحوم على ضفاف مأساة.
|