لما شرعتُ في الكتابة عن حال الشعب السوري في هذه الأيام العصيبة، على نيَّةِ مقاربةٍ سياسية، انتابني خجلٌ وهَمَمتُ بالاعتذار. فجرحُ هذا الشعب فوق السياسة، وجريمةُ هذا النظام فوق البربرية الصافية. ثمة شعبٌ يغبطه القدّيسون، ونظامٌ تحسدهُ الوحوش!
الفارقُ بين "الغبطة" و"الحسد" عظيم، على ما أخبرتنا كتب البيان العربي. فأن تغبط أحداً على شيء ما، هو أن تطلب لنفسك مثلَ ما هو عليه، بلا استئثار. أما ان تحسده على شيء، فهو أن تتمنَّى تجريده مما هو عليه والاستئثار به لنفسك. بهذا المعنى الأخير فإن الوحوش، في احتمالاتها القصوى، تحسد النظام السوري على بلائه الأعظم في ميادين الإبداع البربري!
الواقع ان منشأ الحسد ههنا لا يعود إلى الكمّية فقط، إنما إلى النوعية أيضاً. ذلك أن القتل بدم بارد هو قتلٌ نوعيّ، فكيف إذا اقترن بكمّ هائل: تملّكنا العجبُ من قتلٍ على مدى شهور، بواقع ثلاثين شخصاً في اليوم! ثم انتقلنا إلى الدهشة مع واقع الخمسين أو الستّين، ودائماً في اليوم الواحد! فإذا بلغنا المئة قلنا: هذا هو الكفرُ بعينه، وحسبنا اننا بهذا نقول غايةَ الذمّ والاستنكار!... وهل بعدَ الكفر من خطيئة في عُرفنا؟! غير أننا سرعان ما أعجزتنا المئتان عن الوصف، على إيقاع خبر يومي – خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة - مفادهُ أن نصف الضحايا أو أكثرهم في حمص وحدها، وفي حيّ منها بعينه! والحال أنّ ما عجزنا عن تسميته سمّاه كتابُ المسلمين الكريم "الظُلم"، وجعله في منزلةٍ يهون أمامها الكفرُ والشركُ بالله: "وإذ قال لقمانُ لإبنه وهو يَعِظه يا بُنَيَّ لا تُشرك بالله إن الشِّركَ لظلمٌ عظيم"؛ والذين يتنحنحون بالعربية الفُصحى يعلمون جيداً ما نسبةُ المُشَبَّه إلى المشَبَّه به.
هذا الشعب النبيل، حتى القداسة، انتفض لكرامته على حين غَرَّةٍ من السياسة، ومن موازين القوى، ومن توقُّعات "مراكز الأبحاث" و"استطلاعات الرأي"، ومن ترسيمات الحكم والمعارضة... ومن الإيديولوجيا. انتفض لكرامته دونما حسابات - إذ لم يعد لديه شيءٌ يُجري عليه الحُسبانات – فارتسم قدّيساً، بلا واسطة! ولكي أُثبت لكم هذا الشيء "بالدليل القاطع"، بدا لي انني سألتُ ربّيَ البارحة، فقلت: أيُّ شيء في خَلقك أحبُّ إليك أن تُودِعَ فيه القداسة؟ قال: كرامةُ الانسان! قلت: نحن إذاً متّفقان!... وكان ما كان مما لستُ أذكرهُ فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ.
كتبت التونسية هالة بجي مقالاً في صحيفة "لوموند" الفرنسية بعنوان: Saint Bouazizi، القديس بو عزيزي! ذلك أن محمد بو عزيزي، الذي يبيع الفاكهة ولا يبيع كرامته، أحرق نفسه احتجاجاً على ظُلم لحقه، ولم يجد مَن ينصفه، فيما بات هذا الظلم يعمّ المشهد التونسي كلَّه بلا وازع. والحالُ كذلك، فإن "صرخة بو عزيزي لم تَقُل الموت، وإنما قالت الرغبة في خلاصٍ من انتحار جماعي... هو لم يقتل نفسه والآخرين، بعمل إرهابي، وإنما افتدى شعبه. بو عزيزي ليس إرهابياً، بل هو رجل عَدلٍ وإنصاف... والظلمُ الذي يحوّل البشرَ وحوشاً ضارية، مهووسةً بوهم القوة النابعة من العنف، حوّل بو عزيزي قدّيساً".
تُصرّ آلة القتل النظامية السورية على تحويل الشعب وحوشاً وإرهابيين، ليس لسبب سوى انها لم تعتَد على التعامل إلا مع حالة كهذه، خَبِرتها وآخَتها على مدى خمسين شتاءً. لقد فاجأتها مفردةُ "الكرامة الانسانية"، ولم تجد لها مكاناً في قاموسها ولا في بَرمَجةِ عقلها. ولعلَّ أكثر ما فاجأها اكتشافُها أن للكرامة صوتاً، وقبضة، وعيناً تقاوم المخرز... بل وحنجرةً ما برحت تهتف برغم اقتلاعها! لذا هي تهرب إلى الأمام بلا هوادة، إلى المكان الذي لم تعرف سواه. غير أن هذا الشعب النبيل، حتى القداسة، لا يَني يتمايل في الساحات على صوت "القاشوش"، صفوفاً متراصَّة، كتفاً إلى كتف، جرحاً إلى جرح، وصرخةً إلى صرخة موصولتين بأحبّ ما إلى قلب الله... هي القداسةُ في الساحات، فلا تنظروا إلى طالع الأبراج.
قلتُ إنني أقاربَ السياسة، لذا لن أحكي عن مؤيّدين أو مناهضين لهذه الكرامة السورية، ولا عن مشكّكين أو متخوّفين، ولا عن حسابات دولية وإقليمية... وصولاً إلى الحسابات الزاروبية، وحتى الفضائحية. لن أقارب السياسة بما هي السياسةُ، تعريفاً، قابليةٌ للأخذ والردّ. لا أريد ان آخذَ وأردّ مع أحد. حسبي أن أقول كلمة واحدة، برغم كل التقديرات "الموضوعية" و"الوقورة" التي يُرسلها محبّون ومشكّكون وكارهون، أو حتى "لاأدريّون"... هي كلمة واحدة، مفادها أننا أمام استحالتين: استحالة أن تُهزَم هذه الكرامةُ، أو تتراجع، واستحالةُ أن ينتصر هذا الجلاد... وعليه فليتدبَّر كلُّ ذي عقلٍ أمره، لا سيما اؤلئك الذين ارتبطت بهم مصالحُ أناسٍ بسطاء وطيّبين.
|