عباس بيضون
لم تتأخر العدوى التونسية، انتقلت فوراً من المغرب إلى المشرق. لكنها اختارت هذه المرة النظام الأكثر تضخماً واستفحالاً. النظام الذي ربّى عبر أكثر من نصف قرن آليات دفاع قد يكون السبات الظاهري إحداها. انتقلت العدوى من بلد عربي إلى بلد عربي وسيكون مقدراً لها، إذا نجحت هذه المرة، أن تنتشر في العالم العربي. لقد فعلت روابط اللغة والتاريخ والثقافة وكنا لفرط ما ركدنا وما همدنا آثرنا أن ننساها. كنا عربا ساعات الانتفاضة والتوتر اكثر منا أوقات اليأس والهمود.
أصابت العدوى أول ما أصابت، الرأس الكبير، لذا أصاب الرؤوس الأخرى ذهول لم تفق منه إلى اليوم. لقد تعلم المصريون من الدرس التونسي الا يخافوا، لكن النظام المصري تعلم أيضا الا يواجه الا اضطراراً وأن يكون أشد التواء وخبثا وتخفيا، وأن يحارب بكنايات وأسماء أخرى، وحين يضطر، وأن يوفر قوته ولا يستنفذها في أول صدام.
هكذا، سلّط شرطته في الأيام الأولى وقتلت هذه ما قتلت، ولما شعر أن هذه ستكون ملحمة بطولية. شعر أن الدم المسفوح يغدو منارة وكنزا والشهداء يغدون ذخيرة وإرثا للأجيال، سحب الشرطة من الشوارع فبدا للوهلة الأولى أن ما أنجزه التوانسة في أسابيع انجزه المصريون في أيام فالشرطة غائبة والجيش محايد بل يصرح مراراً بأن مطالب الناس مشروعة وأنه لن يتصدى بالقوة لها. هكذا تراءى ان النظام انهزم أو تفكك ولم يبق إلا ساعة الفصل. لم يبق إلا ان يرحل الرئيس وترحل دولته معه ونظامه.
لكن مصر ليست تونس وحسني مبارك ليس النظام، والنظام لم يسلّم بل انكفأ ليعيد رص صفوفه وهو أخبث من أن يرمي بقوته كلها في معركة. أخبث من أن يواجه في موقعه فاصلة. مبارك رأس النظام لكنه ليس النظام كله فالنظام المصري لا يزال ينبني منذ سقطت الملكية أي ما ينيف عن خمسين عاماً. وهو إذا أخل بالبناء الطبقي وطاح به استولد طبقات جديدة واستولد على وجه الخصوص طبقته هو. تضخم واتسع وليست الشرطة المليونية رافده الأوحد ولا طبقة رجال الأعمال صدارته الوحيدة، فالأرجح انه متغلغل في الاقتصاد وفي السياسة بحيث ان جذوره وخلاياه تنتشر داخل المجتمع كله، ونظام كهذا لا يرحل مع مبارك، كما حسب المتظاهرون، ولا يوجد به. إن مكانة رئيس الجمهورية وسلطانه المطلق، وانتظام الحكم وعدم تعرضه منذ زمن طويل إلى هزة كبرى إنما يدلان على استقرار النظام ومتانته. لم يكن لدى المتظاهرين سوى بند واحد هو رحيل حسني مبارك لكن طبيعتهم الشعبية كانت تحمل في مكبوتها نعرات شتى ضد مجوعيهم المتهالكين على المال العام والممسكين بمقاليد الاحتكارات والوارثين للتأميمات التي استحالت بالخصخصة أملاكاً خاصة. ارتفع الصراخ ضد هؤلاء ففهموا ان رحيل مبارك سيكون على المدى الأبعد محاكمة لنظامه الذي يتخذ له اسماً جامعاً هو «الحزب الوطني»، لذا نفهم الآن كيف كان الرئيس يتراجع و«النظام» يهاجم. نفهم الآن كيف انسحبت الشرطة وحل محلها المجرمون، كيف تدرج الرئيس في تراجعه من حل الوزارة إلى الوعد بمغادرة السلطة في مدى أشهر (هي النهاية الطبيعية لدورته الرئاسية)، في حين بقي الجيش على حياده وان سمح للبلطجية أن يهاجموا المتظاهرين بالهراوات والسكاكين في أعقاب تظاهرة مضادة «شكلية» تؤيد مبارك.
كان مبارك في تراجعه المنتظم يخاطب في الحقيقة الطبقة الحاكمة التي لم تكن كلها متفقة على التوريث، وقد أوحى للجيش ورجال الأعمال انه قدم أقصى ما يستطيع من التنازلات وانه تنازل تقريباً بشخصه عن كل شيء. لكن أي تنازل آخر لن يكون شخصياً وسيكون هذه المرة من لحم الطبقة الحاكمة وامتيازاتها. أي انه الآن الحد الفاصل بين الشعب والطبقة الحاكمة وإذا انزاح بالقوة فسيقفز الثائرون إلى كراسي من خلفه يحطمونها على رؤوسهم. أنذر مبارك الحزب الوطني بأن الدور التالي سيكون عليه. وكان طبيعياً أن يكون البلطجية هم حلف الحزب الحاكم فالحزب يتشكل من بلطجية الاقتصاد والسياسة، النظام هكذا بونابرتي بالمعنى الذي قصده ماركس في 18 برومير، وسيقاتل بلطجية الاقتصاد وبلطجية الشارع في الصف نفسه. لكن هذا بعد ان جمع الجيش المجرمين وفوت بذلك نية خبيثة لاتهام المتظاهرين بالفلتان والفوضى، سيكون هذا تظاهرة ضد تظاهرة وستكون نذر الحرب الأهلية بادية فيه خاصة بعد ان وعد الرئيس بمغادرة السلطة ونزل هكذا في الظاهر عند مطالب المتظاهرين. الأرجح أن الحزب الوطني الذي قام بالتظاهرة المضادة غداة تسليم الرئيس الظاهري بالمطالب يريد بهذا «إقناع» الجيش بأن العاقبة ستكون الفوضى إن لم يقم بواجبه في الدفاع عن النظام، ربما سيكون لهذا، بالإضافة إلى تعيين عمر سليمان وأحمد شفيق لنيابة الرئاسة ورئاسة الوزراء، اثره في الجنرالات الذين هم من زمرة النظام، لكن الهجوم بالجمال والجياد لا يخفى طابعه المسرحي، إن ادعاء البداوة تهريج «بلطجي» وإذا كان للبلطجية فرقة في أمن الدولة الذي دافع عن الرئيس، فإن بونابرتية النظام لن تجد أوضح من توظيف البلطجية وتشريعها.
إلى أين؟ يبدو أن النظام متحسب أكثر مما توقعنا. انه هو الآخر يلعب ويراهن على الوقت ويأمل ان ذلك سيتيح له رص صفوفه فيما يستمر الطرفان في المراهنة على الجيش، ستكون المعركة طويلة وسيسعى النظام إلى كسر التظاهرة وتفريغها ووصمها وإلى اقناع صفوفه بالتكتل والمجابهة سوية. انه يعلم ان حسني مبارك حال رحيله سيرحل معه بلطجيته، لذا لن يستسلم هؤلاء بسهولة وستكون المعركة طويلة. لكن انتصار الشعب المصري سيكون عدوى سريعة وهائلة وستتقوض الأنظمة العربية وتهوي في مدى قصير. ستكون هذه نهاية العار العربي، ولن نفكر بعدها أننا راضون بديكتاتورياتنا، كارهون للحرية، تنابلة ساكتون.
[[[ عندما نال جابر عصفور جائزة القذافي العالمية للآداب أحصينا الجائزة فوجدناها أكثر من مئتي ألف دولار وقلنا لا جناح بأن يخرج هذا المبلغ من كيس القذافي إلى جيب جابر عصفور، وأشفقنا على جابر من ان ينخدع بأن الجائزة حقا عالمية وحقا للآداب وأن يصدق بأن اسم القذافي يصلح لجائزة من هذا النوع. لكن قبول جابر بتسنم وزارة الثقافة على جثث مئة قتيل واكثر من شعبه ليس شيئا يحمل على الدعابة. أراد الرئيس من هذه الوزارة أن تكون زيا معاراً، وقبل جابر بأن يكون في الثوب الرئاسي ووضع فصاحته في خدمة الرئيس. هذه المرة لم ينخدع جابر لقد باع واعيا الثقافة والآداب وباع نفسه قاصداً للمستبد ولن نقول هذه المرة إن الوزارة خرجت من كيس مبارك إلى جيب الرئيس و«صحتين على قلبه»، سنقول إن جابر وضع كل ما يملك، اسمه وآدابه وثقافته عند قدمي الرئيس. سنشفق عليه من أن يكون انخدع باسم القذافي اكثر من انخداعه باسم الجائزة وكنا نتمنى لو ان مبارك منحه جائزته فذلك افضل من أن يمنح هو الثقافة والفصاحة جائزة للرئيس. نشفق على جابر من ان يكون انخدع بتعيينه وزيراً. لم يصدق المتظاهرون الرئيس فالنظام البلطجي لا يُمسك بكلمته ولا يقف عندها. لقد وعد مبارك في الليل وفي الغداة بدأت محاولة كسر التظاهرات. ولا يعلم أحد ماذا يبقى من وعد الرئيس إذا خلا الشارع خاصة أن كسر الانتخابات سبق كسر التظاهرات، والبلطجية كانوا دائماً حرس النظام. ستكون هذه الوزارة إذا رحل مبارك ذكرى سيئة لأصحابها، وجابر عصفور منهم، ولن يفكر عاقل بعد ذلك في إعادتهم إلى الضوء.
|