الخميس, 03 فبراير 2011 رغيد الصلح *
عرفت المنطقة العربية خلال منتصف القرن الفائت أنظمة وحكومات استلهمت المبادئ الديموقراطية، ولكنها أخفقت في أمرين: الأول في حماية الأمن الوطني فانهارت أمام الغزو الاستيطاني الصهيوني، والثاني في تحقيق المساواة بين المواطنين وتأمين العدل الاجتماعي لهم. واستنتج البعض من ذلك الانهيار أن هناك عطلاً في الديموقراطية يجعلها غير قادرة على حماية الأوطان من المؤامرات ومن الطوابير الخامسة، واعتبر انها لا تستطيع ان تعبئ الشعوب للدفاع عن أرض الوطن كما فعل ستالين عندما دحر النازية، أو كما فعل مصطفى كمال أتاتورك من قبله عندما أخرج الغزاة الأوروبيين من أرض تركيا.
وعرفت المنطقة العربية أنظمة استلهمت المبادئ الوطنية ولكنها أخفقت في أمرين: الأول ضمان الحريات السياسية والديموقراطية طالما أنها كانت مقتنعة بأن هذه الحريات تضعف الحصانة الوطنية في وجه التدخل الخارجي، الثاني أنها هي الأخرى لم تتمكن من حماية الأمن الوطني من الحروب والاعتداءات التي شنتها إسرائيل ودول الغرب على دول عربية كما جرى في حرب العراق.
كما حمّل البعض الديموقراطية العربية الناشئة مسؤولية الانهزام العربي أمام التوسع الإسرائيلي، فقد حمّل البعض الآخر الوطنية العربية مسؤولية «الموجة الثانية» من الهزائم العسكرية. ودعا هذا الفريق الى استبدال منظومة القيم العربية السائدة بمنظومة جديدة يحتل مركز الصدارة فيها قيام نظم ديموقراطية في المنطقة وتحقيق السلام مع إسرائيل والانضواء تحت قيادة القطب الأميركي الأعظم على صعيد السياسة الدولية وتطبيق مبادئ «إجماع واشنطن» التي تؤكد على دور السوق.
استأثرت هاتان المدرستان بتأييد واسع بين الذين طفقوا يفتشون عن أسباب الانكسارات المتوالية أمام القوى الخارجية والعجز الديموقراطي ببعديه السياسي والاجتماعي فوجدوها في غياب الديموقراطية حيناً وفي تغييب الوطنية أحياناً. وبدا أن كل واحدة من هاتين المدرستين تقدم تفسيرات مختلفة عن تلك التي تقدمها المدرسة الثانية، ولكن الحقيقة انهما تتفقان على شيء واحد ألا وهو أنه لا مجال لقيام أنظمة تجمع بين الوطنية والديموقراطية معاً، وأنه سواء تحقق هذا الأمر في دول ومجتمعات أخرى، فانه ليس للعرب -ولسبب غير مفهوم - أن يطمحوا الى قيام مثل هذه الأنظمة في ديارهم. هاتان المدرستان ساهمتا، من دون قصد بالضرورة، في ولادة مدرسة ثالثة تضم لفيفاً من أهل السياسة الذين يجمعهم الاستهتار بالقيم الديموقراطية والوطنية. الممثل الأبرز لهذه النظرة هو القيادة المصرية والسياسة التي انتهجتها تجاه مسائل الإصلاح على الصعيد الداخلي، والعلاقات مع إسرائيل على الصعيد الخارجي.
فأمام الدعوات المتزايدة الى الإصلاح والتغيير الذي كانت تصدر عن الأحزاب والحركات والمنظمات المصرية في الداخل، وأمام المنظمات والهيئات الدولية المعنية بقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان في الخارج، لجات القيادة المصرية الى أساليب المراوغة والى إدخال تعديلات شكلية بقصد احتواء الضغوط التي كانت تمارس عليها. أمام الضغوط الداخلية أعلن الرئيس المصري حسني مبارك إدخال تعديلات دستورية وقانونية مثقلة بالشروط، فضلاً عن أنها لبثت في أكثر الأحيان مجرد نصوص لا معنى لها. فبعدما أدخلت تعديلات دستورية بهدف السماح للمنافسين بدخول الانتخابات الرئاسية ضد مبارك، وبعد أن صدّق أيمن نور هذه النصوص الدستورية فرشح نفسه ضد الرئيس، ألقي القبض عليه وحكم عليه بالسجن لسنوات. وأمام الانتقادات التي كانت توجه إليها من الخارج، لجأت الى رفع راية «السيادة الوطنية» وحرمة الداخل في مواجهة الخارج.
ولقد بلغت المبادرات التجميلية للنظام نهايتها المتوقعة والهزلية عندما أجريت الانتخابات العامة فحقق فيها حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم «انتصارات ساحقة» و «اكتسح» الدوائر الانتخابية على نحو عز نظيره في تاريخ مصر الديموقراطي! وظهرت قيمة هذه الانتخابات على حقيقتها خلال التظاهرات الأخيرة عندما استنجد النظام المصري بمؤيديه لكي ينزلوا الى الشارع ويعبروا عن تضامنهم مع مبارك، فلم يستجب الى هذا النداء إلا عدد هزيل مقابل مئات الألوف من المصريين والمصريات الذين أجمعوا على مطالبة الرئيس المصري بالاستقالة والرحيل.
وكما بينت سياسة مبارك على استهتار بالمبادئ الديموقراطية، فإنها دلت على موقف مشابه تجاه القيم الوطنية أيضاً. وتبلور هذا الموقف بصورة خاصة في السياسة التي انتهجها تجاه إسرائيل. صحيح انه انتهج سياسة متوازنة في المرحلة الأولى من حكمه، إذ وضع بعض الضوابط على التطبيع مع إسرائيل، إلا أنه ما لبث أن اندفع على طريق التطبيع خاصة بعد أن قرر البقاء في الحكم الى ما لا نهاية وعندما اتخذ قراراً ضمنياً بترشيح ابنه للرئاسة من بعده.
استحق مبارك في ضوء هذه السياسة وبسبب الخدمات الكثيرة التي قدمها الى إسرائيل تقدير الإسرائيليين فبات حليف بنيامين نتانياهو - رئيس أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً - الأول والاستراتيجي. لم تغير مواقف مبارك سياسة إسرائيل تجاه مصر أو تجاه الفلسطينيين أو العرب فلم تقدم للمصريين أي تنازل ولم تتراجع عن معارضتها لقيام مصر بأي دور إقليمي فعال ولا قدمت للفلسطينيين تنازلاً على أي صعيد، ولكن سياسة مبارك أكسبته هو شخصياً رضى الإسرائيليين. ذلك أنهم يدركون انه «باستثنائه هو والحلقة الضيقة المحيطة به لا يوجد بين المصريين من يؤيد السلام والتطبيع مع إسرائيل» «وانه إذا ذهب مبارك فان نتانياهو سوف يبقى من دون حليف إلا إذا جاء الى الحكم في مصر واحد من تلك الشلة الصغيرة المحيطة بمبارك»، كما صرح أحد المسؤولين الإسرائيليين الى صحيفة «هيرالد تريبيون» الدولية (31/1/11)
في خضم الانتفاضة الشعبية العارمة ضد النموذج المباركي وما يمثله على الصعيد العربي وليس المصري فحسب، هل نتوقع أن تبرز مدرسة جديدة ورابعة في السياسة العربية تلتزم بالمبادئ الديموقراطية وبالقيم الوطنية معاً وتبرهن على أن التناقض المحتوم بينهما هو أمر مفتعل، غريب عن علم السياسة ويفتقر الى الأساس الجدي؟
لم يتبلور هذا الرأي في مدرسة محددة المعالم ولا في نهج واضح ولم يبرز له تأييد واضح النطاق، ولكن الانتفاضات الشعبية تبدو كأنها نقيض مباشر وصريح لفكرة التضاد بين الوطنية والديموقراطية، وتأكيد على انه من حق العرب أن يتطلعوا الى إقامة حكومات وطنية وديموقراطية معاً تصون هويتهم وشخصيتهم الجمعية وترعى مصالحهم الحيوية وتحمي أرضهم من الاحتلالات والمحتلين.
فالأحزاب المعارضة التي تضطلع بدور رئيسي في تنظيم حركات الاحتجاج في مصر والأردن وتونس تجمع على ضرورة إعادة النظر في سياسة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وفي سياسة التبعية للإدارة الأميركية، والتمسك بالهوية والمصالح العربية. والحركات الشبابية التي تساهم بقوة في هذه التحركات تطالب بوضوح بذهاب الأنظمة الأوتوقراطية واستبدالها بأنظمة ديموقراطية. ويتفق الجميع الذين يمثلون شتى الطبقات والشرائح الاجتماعية على ضرورة مكافحة البطالة والفقر والفساد والتمايز الاجتماعي الفادح. إذا تمكنت هذه القوى من الحفاظ على هذا التحالف الواسع الذي تمكن من هز دعائم الأنظمة في تونس والجزائر فانه من المستطاع القول أننا أمام عصر جديد تتحقق فيه المصالح بين الوطنية والديموقراطية في المنطقة العربية.
* كاتب لبناني
|