في مرحلة مصيرية بالغة الخطورة من تاريخ الشرق الأوسط، يستنفر زعماء الطوائف اللبنانية كامل تحالفاتهم الداخلية وارتباطاتهم الإقليمية والدولية سعيا وراء انتصار وهمي لن يكون الغالب فيه إلا مغلوباً لأن المعركة تطاول مصير لبنان الوطن بكامل أرضه وطوائفه وقواه السياسية المتنازعة.
صحيح أن النزاعات بين زعماء الطوائف اللبنانية موغلة في القدم، إلا أنها لا تتهدد مصير لبنان واللبنانيين كما هي الآن. فالاستقطاب الحاد بين كتل سياسية وطائفية ومذهبية متنافرة جدا يمنع الإنضواء ضمن حكومة وحدة وطنية جامعة تغلّب مصلحة الوطن على مصالح زعماء الطوائف. فقد ربطوا مستقبلهم بالصراع الدائر عربياً، الذي تقوده جامعة عربية مأزومة وعاجزة عن القيام بأي دور عربي جامع لكنها تمهد الطريق لأكثر من تدخل خارجي.
تعود النزاعات اللبنانية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر إلى أواسط القرن التاسع عشر الذي شهد بروزاً حاداً لنزاعات لبنانية – لبنانية بسبب التبدلات السكانية والاقتصادية التي شهدتها بعض المقاطعات اللبنانية من جهة، وتدخلات بعض الدول الأوروبية في المشرق العربي واستخدام العصبيات العرقية والقبلية والعائلية والطائفية وغيرها لتفكيك السلطنة العثمانية واقتسام ولاياتها من جهة أخرى. عاشت المقاطعات اللبنانية صراعاً دموياً قرابة عقدين من الزمن، عُرف في ذاكرة اللبنانيين بعهد الفتن طوال سنوات 1840 – 1860، وانتهى بقيام متصرفية جبل لبنان التي استمرت حتى بداية الحرب العالمية الأولى حين ألغت السلطنة العثمانية امتيازات جبل لبنان.
تميزت تلك النزاعات بكثير من التوتر الطائفي، فخاض زعماء الطوائف المتنازعة صراعاً دموياً لتثبيت الزعامة السياسية داخل الطائفة الواحدة، ورهن بعضهم مستقبلهم السياسي بقوى إقليمية كبيرة لتثبيت سيطرتهم والانتصار على خصومهم المحليين. دوّنت الأحداث التاريخية لتلك المرحلة وفق مرويات طائفية متنافرة ومنحازة، وهي تعبّر عن طبيعة السياسة التي كانت سائدة لدى القوى السلطوية في المقاطعات اللبنانية، فشكلت مزيجاً من الذهنية العائلية، والقبلية، والمذهبية، التي توظف الجماعة في خدمة زعامة فردية ومصالح شخصية في الدرجة الأولى، ولعبت دوراً أساسياً في تعميق الانتماء إلى زعيم الطائفة، أو شيخ العائلة، على حساب الانتماء إلى دولة مركزية توحد بين اللبنانيين على اختلاف مناطقهم وطوائفهم.
انقسم زعماء الطوائف في جبل لبنان بين مؤيد ومعارض لقوى خارجية، مما أسس لمرحلة من النزاعات الطائفية لا تزال تتجدد بأشكال متنوعة منذ أواسط القرن التاسع عشر. لذلك تقدم دراسة المسألة اللبنانية فرصة ثمينة لمعالجة المرويات التي تأسست عليها الذاكرة اللبنانية ومعها الإشكاليات الأساسية التي رافقت ولادة النظام السياسي الذي أفضى إلى قيام دولة الاستقلال على أسس طائفية واضحة المعالم، وفق أعراف وتقاليد غير مكتوبة عام 1943، وصولا إلى دستور لبنان لعام 1992. ابرز تلك الإشكاليات:
1- إشكالية لبنانية المقاطعات الجغرافية التي شكلت الدولة اللبنانية، وكيفية تحديدها وفق المراحل التاريخية. 2- إشكالية الهوية المميزة للشعب اللبناني على خلفية التنوع الطائفي والتعددية الثقافية. 3- إشكالية الزعامة السياسية ذات الطابع العائلي والطائفي ودورها في المسألة اللبنانية. 4- إشكالية الانتقال من نظام الأعيان المقاطعجي إلى الجمهورية اللبنانية في عهد الإنتداب الفرنسي. 5- إشكالية النظام الطائفي على قاعدة الديموقراطية التوافقية بحسب "الميثاق الوطني" لعام 1943 في لبنان المستقل إلى الديموقراطية الطائفية وفق دستور 1992 بعد اتفاق الطائف. 6- إشكالية الربط بين أمن لبنان واستقراره وسيادته واستقلاله عن المشاريع والنزاعات الإقليمية والدولية التي ساهمت في تفجير الصدامات الدموية بين اللبنانيين .
يكمن التاريخ الحقيقي للمسألة اللبنانية في البحث عن مسيرة توحد المقاطعات اللبنانية وطوائفها من مقاطعات مفككة إلى دولة مركزية باسم لبنان الكبير. وهي حافلة بالنزاعات الأهلية من جهة، وبقدرة تلك المقاطعات على لبننة الوافدين إليها واعتزازهم بالانتماء إلى لبنان الدولة المستقلة من جهة أخرى. فقد أوكلت السلطنة العثمانية إلى زعماء الطوائف اللبنانية مهمة حكم مقاطعاتهم وجباية الضرائب منها من دون تدخل خارجي إلا في حال العصيان على السلطنة أو العجز عن تقديم الضرائب في موعدها المحدد. شعر الزعماء اللبنانيون بنوع من الاستقلال الذاتي في مقاطعاتهم شرط التزام شعار: "تقديم الطاعة للسلطان والضرائب للسلطنة".
حتى نهاية الحكم الشهابي لم تكن ذاكرة اللبنانيين تشير إلى أن الطائفية شكلت عنصرا أساسيا في تحزبات اللبنانيين أو غرضياتهم السياسية. ولم يكن للمتحازبين مطالب سياسية محددة يحاولون تحقيقها، بل كانوا يتضامنون مع فلاّحيهم في السرّاء والضرّاء. تنازع الزعماء اللبنانيون دفاعاً عن مصالحهم الشخصية في الدرجة الأولى. وكان الأمراء الشهابيون منقسمين في ما بينهم، ومنهم من كان يطمع بالوصول إلى السلطة عبر الدسائس ضد أخيه أو نسيبه الحاكم ويؤلب عليه الزعماء الآخرين. كان الأمير الحاكم يقابلهم بالمثل فتعمّ الفتن مختلف مناطق الامارة وتتجاوزها أحياناً إلى مناطق مجاورة. تميزت السلطة السياسة في مقاطعات جبل لبنان بسمات بارزة لا يزال بعضها مستمرا بأشكال متعددة في تاريخ لبنان المعاصر، منها:
1- إقامة نظام سياسي متنوع متعدد القطب يمنع التفرد بالسلطة لكنه يمنع في الوقت نفسه قيام دولة مركزية ذات ركائز صلبة.
2- ارتبط النظام السياسي الطائفي بخصائص سلبية بسبب الفتن الطائفية التي شهدها جبل لبنان في أواسط القرن التاسع عشر، ثم تجددت في القرن العشرين.
3- كثرة الإنتفاضات الفلاحية المتلاحقة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، التي قادت إلى تحرر الفلاحين في جبل لبنان من التقاليد المقاطعجية المذلة التي كانت تسيء إلى كرامة الانسان. إبان السنوات الثلاث لانتفاضة فلاّحي كسروان، بات المقاطعجيون مهددين في مناطق سيطرتهم من جانب قوى سياسية شعبية فاعلة.
4- بروز تحالف شبه ثابت بين زعماء الدين وزعماء السياسة على امتداد المقاطعات اللبنانية، وحظي ذلك التحالف بدعم مباشر من ممثلي الدول الكبرى، العثمانية منها والأوروبية، مما أدى إلى إجهاض الانتفاضات الفلاحية.
5- برز تبدل جديد لدى الرعايا اللبنانيين من الولاء القديم للزعيم المقاطعجي منفرداً إلى ولاء مزدوج للزعيمين الديني والسياسي معاً تحت ستار ضمان الإجماع الشعبي ومصلحة الجماعة الطائفية في مواجهة الاجماع الشعبي في الجماعة الطائفية الأخرى، مما ساعد على بلورة هوية طائفية قوية وفاعلة في جميع المقاطعات اللبنانية.
6- كانت التراتبية الاجتماعية في نظر عامة اللبنانيين محترمة لديهم، مع أن الناس لا يعتبرون متساوين منذ الولادة والنشأة، بل لكلٍّ مكانته المميزة، فكان اللبناني يتقبل موقعه ضمن طبقة العامة، ويدافع عنه ضمن طبقة الشيوخ، أو طبقة المقدمين، أو طبقة الأمراء. وتشكلت الزعامة السياسية من أسر أو عائلات تتوارث السلطة ويدين لها الناس بالطاعة، فتوطدت بذلك وحدة النظام السياسي في ظل الامارة على قاعدة ولاء العامة للأعيان في جبل لبنان.
7- كان تناقض المصالح بين الزعماء يضاعف من حدة الصراع على السلطة. ولما كان الزعيم الكبير أو الأمير الحاكم يشكل قطب التوازن السياسي بين مختلف الزعماء المحليين، كان لا بد من اختلال النظام السياسي في كل مرة يتم فيها تبديل أمير بآخر، فضعفت تدريجياً سلطة جميع الزعماء مع بروز نزاع حاد بين أركان النظام السياسي جعلهم أكثر استعدادا للترحيب بالتدخلات الخارجية. تراجع احترام الأعيان للأمير الحاكم بموجب التقاليد الموروثة والعميقة الجذور، وباتت السلطة المركزية عاجزة عن فرض هيبة الأمير الحاكم على الأعيان ورعاياهم بعدما اصبحت خلعة الامارة سلعة تشرى بالمال، مما حال دون قيام سلطة مركزية في جبل لبنان وأدى إلى زوال حكم الإمارة، فأعقبها نظام المتصرفية ثم دولة لبنان الكبير.
شارك اللبنانيون، على اختلاف طبقاتهم الإجتماعية، في صنع تاريخهم السياسي في ظل السلطنة العثمانية، وتأثروا مباشرة بالنزاعات الاقليمية والدولية التي دارت على أراضيهم، مما أكسبهم خبرة سياسية عريقة ساعدت على إنتقالهم من العهد المقاطعجي إلى ممارسة الديموقراطية التوافقية على اسس طائفية بصورة واضحة. أبرز مظاهر تلك الديموقراطية:
أ- تعزيز حرية الفرد في المعتقد والفكر، وظهور طبقة العامة والفلاّحين الأحرار الذين لعبوا دورا كبيرا على مسرح السياسة اللبنانية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وقد ساهموا في عملية التغيير السياسي في تاريخ لبنان الحديث من خلال انتفاضة فلاّحي كسروان التي أسست لتغييرات اجتماعية وسياسية لا سابق لها في جميع مناطق المشرق العربي.
ب- بني النظام اللبناني في عهد الامارة على الارتباط السياسي أولا وليس الديني، وتميز بحماية الحريات الدينية، واحترام التراتبية الاجتماعية، والتقارب بين الأعيان والأهالي أو العامة. ومع أن الطائفية دخلت النظام السياسي رسميا في عهد المتصرفية إلا أنها لم تسع إلى تدمير التقاليد القديمة بل عززت الترابط بين السلطة والشعب من خلال تحالف الأعيان القدامى والجدد.
ج- تبنّى زعماء الطوائف صيغة "لا غالب ولا مغلوب" التي لا تزال تتكرر عند نهاية النزاعات اللبنانية المستمرة منذ اكثر من قرن ونصف القرن. انهار النظام المقاطعجي من دون أن تزول ركائزه الموروثة، مما سمح بتجدده لاحقاً والحفاظ على شرعيته داخل النظام الطائفي الجديد. حافظ زعماء الطوائف على شرعية نظامهم القديم مع الاعتراف بالشرعية الشعبية للنظام الطائفي الجديد. وفي حين كانت شرعية النظام القديم تقوم على الوراثة بين ذوي القربى من أعيان الطبقة الحاكمة، قامت شرعية النظام الجديد على أساس الإنتماء إلى جماعة طائفية ذات سمات خاصة بها.
د- تضامن اللبنانيون لحماية وحدة الجماعة الطائفية باعتبارها هوية قائمة بذاتها، في مواجهة هويات طائفية أخرى تشكل مجتمعةً الهوية اللبنانية. المفارقة السياسية أن زعماء الطوائف حافظوا على هويتهم الخاصة كطبقة مسيطرة في النظام السياسي الجديد، في حين بقي العامة في كل طائفة جماعة تفتقر إلى الخصوصية السياسية لأنهم رعايا ملحقون بزعمائهم المدنيين والطائفيين. لكن النظام السياسي اللبناني تراجع حديثاً من الطائفية إلى المذهبية الضيقة التي فككت الجماعات الشعبية وحولتها جماعات متناحرة داخل الدين الواحد، مما سمح لزعماء الطوائف في الحفاظ على شرعيتهم الموروثة، واستمروا قوة فاعلة ومحددة لمسار النظام السياسي الطائفي الذي يحفظ لهم مصالحهم الشخصية، ويزودهم كل مظاهر النفوذ للسيطرة على رعاياهم. في حين بقي اللبناني العادي عضواً في جماعة طائفية توكل إليه مهمة الدفاع حتى الموت عن مصالح زعماء الطوائف من دون أن ينال الحد الأدنى من الحماية الشخصية لحقوقه الفردية والعائلية. إلا أن القيم الجديدة التي عبرت عنها الإيديولوجيا الطائفية كانت تدعو إلى المساواة بين أبناء الجماعة الواحدة من دون التقيد بعلاقات النسب والمرتبة السابقة في النظام القديم، وإلى جعل القيادة السياسية حقاً لكل فرد ينتمي إلى الجماعة الطائفية ليحمل قيمها ويدافع عن مصالحها. لم تعد القيادة السياسية الفاعلة في النظام الطائفي حكراً على أبناء الزعامات القديمة، فبرزت شخصيات جديدة اكتسبت شرعيتها بنشاطها الفردي وكفاءتها الشخصية، ولعبت القيادات الجديدة دوراً سياسياً بارزاً بمشاركة فاعلة من قوى شعبية تعود جذورها إلى العامة من ابناء الطائفة.
شهدت الكتابة التاريخية في لبنان سجالات حادة حول لبنانية المقاطعات الجغرافية وكيفية تحديدها وفق المراحل التاريخية، ومفهوم الهوية اللبنانية والشعب اللبناني، والسمات الأساسية للزعامة العائلية والطائفية وأثرها في المسألة اللبنانية، ودور النظام الطائفي في تأسيس الصيغة السياسية اللبنانية، وانعكاس النزاعات الإقليمية والدولية على أمن اللبنانيين، ما ساهم في تعزيز النزاعات الدموية في لبنان. لا يمكن فهم الأسباب العميقة لبقاء النزاعات الطائفية حية في ذاكرة اللبنانيين إلا عند ربطها بانحدار تلك النزاعات نحو مرحلة أدنى مما كانت عليه في السابق، فأضحت اليوم تصنَّف في خانة النزاع السياسي الطائفي المبني على التحريض المذهبي. وقد عرف تاريخ لبنان الحديث والمعاصر ثلاث مراحل متعاقبة من الطائفية:
1- الطائفية المستقرة في إطار نظام الملل العثماني الذي ضمن لزعماء الطوائف موقعاً متقدماً في الإدارات المحلية.
2- الطائفية المتفجرة في إطار المشروع الاستعماري الأوروبي لتفكيك السلطنة واقتسام ولاياتها، ما حرّك مشاعر الطوائف المحلية لبناء دول عصرية على أساس توزيع السلطات المحلية بين زعماء الطوائف.
3- الطائفية المدمرة التي لعبت الدور الأساسي في تفجير لبنان إبان الحرب الأهلية لسنوات 1975 – 1990.
حديثاً، وبعدما استرجعت الدولة اللبنانية مركزيتها بموجب اتفاق الطائف، بدأت مسعى جدياً لبناء دولة عصرية يتساوى فيها جميع اللبنانيين في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة السليمة وتجاوز سلبيات المرحلة الطائفية الطويلة. نصت مقدمة الدستور اللبناني الجديد لعام 1992 على أن "لبنان وطنٌ سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عليها في هذا الدستور، والمعترف بها دوليا". في مجال التربية والتعليم، نص الدستور على إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية. وحددت وزارة التربية الوطنية في لبنان أهداف تدريس مادة التاريخ في مراحل التعليم العام ما قبل الجامعي، على أن "تسهم مادة التاريخ إسهاما بارزاً في ثقافة التلميذ الوطنية والإنسانية، وفي تنمية معارفه العلمية، وفي تربيته تربية سليمة".
لكن تطبيق اتفاق الطائف تعثر بسبب هيمنة النزعة الطائفية ثم المذهبية لدى زعماء الطوائف في لبنان، مما حال دون تنفيذ غالبية البنود الإصلاحية ومنها كتاب التاريخ المدرسي الموحد. فأدخل الدستور اللبناني الجديد لعام 1992 تعديلات جذرية على دستور 1926، فعزز الإنتماء الطائفي والمذهبي على حساب الإنتماء الوطني، وترسخت طائفية الرئاسات الثلاث في الدستور بعدما كانت عرفاً في الميثاق الوطني لعام 1943، وأجهضت الممارسة السياسية لزعماء الطوائف جميع مشاريع الاصلاح السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي منذ اتفاق الطائف حتى الآن، وانتشرت على نطاق واسع "ثقافة الفساد والإفساد" من دون أن تنجح السلطة المركزية في إحداث أي تغيير يُذكر في بنية النظام السياسي الطائفي في لبنان. فقد أوقف اتفاق الطائف الحرب اللبنانية من دون أن ينجح زعماء لبنان في تحصين لبنان والعيش المشترك لمنع تجددها. وشدد الدستور الجديد على أزلية لبنان وعروبته ونظامه الديموقراطي وفق مبادئ نظرية سليمة، لكنه أوكل شؤون الحكم إلى زعماء الطوائف وفق صيغة سياسية مولّدة للنزاعات الدموية بين اللبنانيين.
يلاحَظ اليوم أن زعماء الطوائف دخلوا مرحلة صراع سياسي واضح لتحديد الصلاحيات وكيفية ممارستها بصورة دستورية بين أركان السلطة في لبنان. وتشهد الحياة اللبنانية حراكاً عقيماً بسبب الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادة، فتضخمت قوة الزعيم الطائفي أو المذهبي على حساب إضعاف السلطة المركزية للدولة اللبنانية.
من أجل الحفاظ على موقع ثابت في النظام السياسي الطائفي اللبناني، يدافع الزعيم السياسي عن مصالحه الشخصية مستخدماً كل ما بحوزته من الروابط العائلية، والطائفية، والزبائنية، وتحالفات المصالح المتبادلة. فالغاية لديه تبرر الوسيلة. وباتت النزاعات الدموية إحدى الوسائل البشعة التي لا يزال بعض زعماء لبنان يلجأون إليها، ولا تزال جماهير الطوائف تعامَل كرعايا بعدما عجز أفرادها عن تأكيد هويتهم كمواطنين أحرار في دولة ديموقراطية عصرية.
لقد أظهر الصراع على السلطة في لبنان أن التجاذب السياسي الحاد يعطل نظام الحكم ومصالح جميع اللبنانيين، لكنه يضمن لزعماء الطوائف مصالحهم الشخصية أو الحزبية أو الطائفية الضيقة على حساب قيام الدولة ومؤسساتها وجماهير جميع الطوائف، خصوصاً فئة الشباب منهم التي تعاني من الفقر، والبطالة، والهجرة القسرية إلى الخارج بأعداد سنوية كبيرة. فالنظام السياسي الطائفي صيغة مريحة جداً لزعماء الطوائف لأنه يشل مؤسسات الدولة بصورة كلية أو جزئية، ويفضى إلى نزاعات مذهبية تقوّي مركز الزعيم السياسي وترسم خطوط تماس سياسية بين اللبنانيين. وبات لبنان اليوم أسير تشنجات داخلية لا حصر لها في ظروف إقليمية ودولية خطيرة جدا تهدد منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ويدرك دعاة الوحدة الوطنية الجامعة على أسس غير طائفية أن مهمتهم ليست سهلة على الإطلاق. فالوظيفة السياسية للطائفية هي حماية النظام السياسي الذي بُني على أسس طائفية. وقد اثبت قدرة فائقة على جمع الزعامات الطائفية حينما يتفرقون مرحليا بسبب مصالحهم الشخصية المتضاربة. في المقابل، أثبتت الطائفية قدرتها على تفكيك القوى السياسية أو الشبابية المجتمعة تحت شعار إسقاط النظام الطائفي وليس إلغاء الطائفية بعد إدخال الشباب في دوامة البحث العقيم عن مقولة "إلغاء الطائفية من النفوس قبل إلغائها من النصوص"، مما يسمح بتجدد النظام السياسي وفق توزانات مذهبية جديدة لإبعاد خطر التغيير الجذري والإصلاح البنيوي. وقد تكرر هذا المشهد السياسي بأشكال مختلفة منذ قيام الدولة اللبنانية المستقلة عام 1943 على قاعدة توازنات الميثاق الوطني والعيش المشترك بين الطوائف. ورفض زعماء الطوائف أي تغيير جذري يطاول بنية النظام السياسي في لبنان، ويمنع خلافة الأبناء للآباء في سلسلة من الوراثة السياسية العائلية المستمرة منذ مئات السنين. وفشلت جميع محاولات الاصلاح الإداري والسياسي في لبنان على رغم ملايين الدولارات التي صرفت على مؤتمرات وندوات علمية قدمت توصيات رصينة لم تنفذ. ولا بد من التأكيد أن حركة التغيير المطالبة بإسقاط النظام السياسي اللبناني يجب أن تنطلق من خلفية وطنية غير طائفية، وهي تستحق كل الدعم لأنها تضع القوى الشبابية في موقع التغيير الجذري على أسس وطنية سليمة. وبقدر ما تتعزز ركائزها على أرض الواقع لتلبّي طموحات القوى اللبنانية الشابة في بناء مستقبل أفضل، تنتعش آمال اللبنانيين بالإصلاح الشمولي عبر انتقالهم التدريجي من موقعهم كرعايا ملحقين بزعماء الطوائف إلى مواطنين أحرار ومتساوين في الحقوق والواجبات في ظل دولة القانون والمؤسسات. وفي زمن ثورات "الخبز والكرامة" التي تجتاح العالم العربي اليوم فإن القوى الشبابية اللبنانية مدعوة لتشكيل قاعدة وطنية صلبة تجمع اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم، تحمل شعارات سياسية وطنية لا طائفية، وتوحد بين اللبنانيين ولا تفرقهم، وتؤسس لربيع الإنتماء الوطني الجامع وليس لربيع الطوائف الملطخ بالدم.
|