يصطنع مثقف السلطة (الذكي )الحياد العلمي الصارم، في زمن نزيف الدم، حين يصبح فيه الحياد جريمة. مصرَّاً على تبرير أعمال السلطة، يستخدم مفاهيم ومصطلحات متعالمة، ليضع نفسه أمام القارئ في أهاب العالم، الذي لا ترف له جفن أمام عاديات الزمان، ولا يهز وقاره العلمي الدم المسفوك في الشوارع، ولا عذابات زهرة شباب سورية في الأقبية المُعتمة، ولا رعب الأطفال والنساء تحت زخ الرصاص. فمفردات الألم والخوف والمعاناة، وانتهاك كرامات الناس واستباحة الأعراض، هي عنده مفردات تصلح لجدالات الحياة اليومية العابرة والتافهة، لكنها لا تستقيم ولغة العلم الموضوعي !موضوعه الوحيد يتلخص في البحث عن العامل الطبقي أو الاجتماعي الذي غذَّى الاحتجاجات الاجتماعية في سورية. المهم لهذا الباحث السلطوي، هنا، ليس معرفة المظالم المتراكمة و الكرامات المهدورة، والخوف المقيم، التي قادت جميعها، الإنسان العادي، إلى الثورة على الظلم واستباحة الحقوق. لا يسأل مثقف السلطة لماذا قامت الثورة، لأن هذا السؤال يحيله إلى عالم السلطة المسؤول الأول عن المظالم، بل يسأل عمَّن قام بالثورة، عن الأصول الاجتماعية للاحتجاج وحسب. لهذا يستحضر (عدة الشغل/ المهنة) مهنة تزوير الوقائع تحت ركام زائف من المصطلحات، في محاولة منه لتزييف الحقائق لا كشفها. .
المقاصد المنهجية لهذا الباحث (الموضوعي)، هي نفسها المقاصد المنهجية لرجل المخابرات، هي معرفة(الفاعل) لوضعه في قفص الاتهام / المعتقل، وليس معرفة المظالم ومصادرها وأشخاصها لرفع الظلم ومصادره. هدفه البحث عن (الثائر/المجرم) وليس عن أسباب الثورة/ الجريمة! وإذا حاول الاقتراب خلسة إلى (الأسباب) فهو ليسفهها وليضعها في الهامشي والثانوي: العشوائيات، الفقر والبطالة، اللبرلة الاقتصادية. مستخدماً هذا المفهوم الأخير ليغطي به على ظاهرة اقتصادية باتت مهيمنة، جوهرها إطلاق يد رجال السلطة في ثروة البلاد بعد أن امتلكوا رقاب العباد، فجمعوا بين السلطة واستثمار الثروة الناتجة عنها، مع السماح في عبور شركاء صغار في السوق. هذا هو معنى اللبرلة الحقيقي في سوريا. ثم يحيلنا المثقف السلطوي، في (أسبابه) إلى مطالب معيشية، ومحلية، على طريقة معالجات السلطة المعروفة لمطالب الثائرين. مستخدماً السوسيولوجيا لخدمة المقصد المخابراتي. لم يكن هذا الوضع سوى استمرار للنهج الذي افتتحته (الحركة التصحيحية)، التي ربطت باب الثراء والارتقاء في سلَّم السلطة وأجهزتها، ثم تحول الولاء الأمني، منذ الثمانينيات، إلى رافعة، شبه وحيدة، لتنامي الثروة ومعها النفوذ. فغدا الفساد منهجاً معتمداً وليس انحرافاً،لإعادة صياغة التركيب الاجتماعي من فوق. وهيمن بذلك نمط ريعي طفيلي على الاقتصاد. فبدلاً من اعتماد الإنتاج كمعيار للاقتصاد دخلت سورية في دوامة إعادة توزيع الثروة لصالح المتنفذين في أجهزة السلطة،هذا هو المعنى الحقيقي لفشل التنمية، وتراجع مستوى الإنتاجية، والدخل، ولجوهر اللبرلة.
ينظر مثقف السلطة باستخفاف إلى مدن مليونية مثل حمص وحماه ودير الزور، يراها مدناً هامشية، علماً أن سكانها يعادلون عدد سكان سوريا في الخمسينات، وسكان لبنان حالياً، ويعادل عدد سكان كل من حماه وحمص ثلاثة أضعاف سكان دمشق في الخمسينات. ولا ينقص تركيبها الاجتماعي التكوينات الطبقية لدمشق وحلب فالاختلاف كمي لا كيفي. يأخذ على امتداد الثورة إلى القرى دليلاً على هامشية الحركة، بدلاً أن يأخذها رمزاً على عمقها، التي ضاهت في شمولها الثورة السورية الكبرى. وعوضاً عن توجيه بحثه لمعرفة مصدر التفاوت في فوران الاحتجاجات في مركزية الأجهزة وتشعبها وانغرازها في المجتمع في هذه المدن، يجد ضالته في (خصوصية طبقية ) لدمشق وحلب. والحال أن كل المدن، التي استطاعت أن تتخلص من الاحتجاز، شكَّلت لها (ميدان تحريرها ) الخاص، وتوقف نزيف الدم فيها. هذا ما حدث، لفترة، في حمص وحماه ودير الزور وإدلب ودرعا والجسر وبانياس والرستن. بل إن تعاظم المركزية المطلقة لأجهزة السلطة وتغلغلها وسطوتها، لم يمنع من أن تفتتح دمشق الاحتجاجات، من قلبها (الحريقة والجامع الأموي)، ما لبث أن شارك: المالكي والمهاجرين وكفر سوسة، ومن قلب المدينة في الميدان وساروجة، وزملكا والمزة والقدم، والحجر الأسود والعسالي، مع ما يحيط بها من ضواحي ومدن.
والحال، أن السلطة ليس لها قاعدة طبقية فعلية، أنها (طغمة)، استطاعت أن تنسج لها وللمحيطين بها مصالح مشتركة ملموسة معززة بقانون القوة:(الأجهزة الأمنية ومنظمات الضبط الاجتماعي: البعث والمؤسسات النقابية الشبيبة وغيرها، ثم تناسلت بفعل الفساد واستغلال النفوذ إلى ثروة ومؤسسات استثمارية أصبحت قاطرة الاقتصاد السوري)، ثم كرَّست قانونياً تميزها عن المجتمع كـ( قائدة للدولة والمجتمع ). أما موضوع (الشراكة)بين بيروقراطية السلطة وطبقة لرجال الأعمال فهو مجرد غطاء لوقائع النهب في اتجاه واحد، يبدأ من قمة الهرم البيرقراطي السلطوي ويمر بوسطائه الدنيا برجال الأعمال. إنها شراكة قسرية يفرضها من يملك السلطة والقوة، فإذا استثنينا القلة القليلة من رجال الأعمال الذين أثروا بفعل سمسرتهم لرجال السلطة، وبيروقراطيتها العليا، فإن الفئات الصناعية وجدت نفسها مُجبرة، في ظل غياب القانون والقضاء، على دفع (الأتاوات ) للأجهزة السلطوية لتأمين مصالحها، أو لعقد (شراكة) كي تحافظ على أموالها. إن علاقة رجال السلطة بالمستثمرين شبيهة بتلك العلاقة التي هيمنت في العهد المملوكي بين المماليك وشهبندر التجار. فالأخير معرض دائماً لخسران كل شيء بقرار من فوق، وهو ما حدث للكثير من المستثمرين السوريين أمثال أمينو وكلاس، لتبقى السيادة، في مجال الاستثمار، للنخب العليا للسلطة وبيروقراطيتها التي حازت على القطاعات القيادية للاستثمار. لذا فإن ما يوحد السوريين هو أنهم جميعاً في القانون:(محكومين)، في المرتبة الثانية من التراتبية الاجتماعية، يقفون جميعاً في مواجهة (الحاكمين) قادة الدولة والمجتمع.
يتجنب مثقف السلطة الحديث عن رموز ميدانيين للثورة أمثال نجاتي طيارة، أحد رموز ربيع دمشق، المعتقل منذ أشهر، والشاهد الكبير على ما جرى في ميدان باب السباع، قلب حمص وليس طرفها، والفنانة فدوى سليمان، وفارس الحلو وغيرهم كثير. فهذا المثقف لا يطيب له سوى التقاط صور مجتزأة بحثاً عن السلفيين!
|