السؤال المهم الذي يجب طرحه هنا، وعلى ضوء الأحداث الأخيرة لا سيما منها الانتخابات المصرية، هو كيف يؤدي الربيع العربي، بأدواته ما بعد الحداثية، إلى إحياء التيارات الدينية التقليدية، قبل الحداثية في السياسة العربية؟. ثمة تفسيران: أولهما أقرب إلى الذهن وهو أن تلك التيارات الإسلامية قد فارقت الروح التقليدية عندما نهجت طريق الاقتراع العام، واحتكمت إلى صناديق الانتخاب باعتبارها أشكالاً ديموقراطية تمت بالصلة لفضاء السياسة بالمعنى الحديث. غير أن المتأمل لفحوى الخطاب السياسي للتيار السلفي، ناهيك عن تاريخه السياسي الذي لا يتجاوز بضعة أشهر، قد لا يجد صدقية تذكر لهذا التفسير. فمفاهيم من قبيل «غزوة الصناديق»، «وبيعة الديموقراطية الدائمة» التي طالب بها القيادي السلفي السكندري عبد المنعم الشحات الجندي، وغيرها من المصطلحات لا تشي بإيمان ديموقراطي، ولا بحداثة سياسية، بل فقط بحضور واقعي وجد فرصة مواتية للتعبير عن نفسه واقتناص الفرصة، فلم يتردد، وينطبق هذا على التيار السلفي الجهادي الممثل بحزب «الإصلاح والتنمية».
يمكن بالطبع إيراد تحفظ هنا في ما يتعلق بالمكونين الآخرين الممثلين بحزبي الوسط الأقدم تأسيساً، والعدالة والحرية الأعرض نفوذاً، فثمة خبرات متراكمة، ونضج سياسي بارز، وقبول مبدئي للشكل الديموقراطي، ولكن ثمة التباسات حول فهمهم للجوهر الديموقراطي، والمتمحور حول النزعة الفردية، والروح الليبرالية.
وأما التفسير الثاني فربما كان الأقرب إلى الصدق إذ يرجع بروز التيار الإسلامي إلى حقيقة أن الثقافة العربية لم تتمكن بعد من ممارسة ما يشبه الإصلاح الديني في التاريخ الأوروبي. فحقاً كانت هناك بدايات جنينية لمثل هذا الإصلاح رافق ميلاد الوعي النهضوي العربي في القرن التاسع، حيث راوحت كتابات ونضالات الكثير من الرواد وعلى رأسهم الطهطاوي وخير الدين التونسي والألوسى والأفغانى، وصولاً إلى الإمام محمد عبده الذي حاول نقل النهضة العربية نقلة منهجية كبرى تجاوز بها ثورية الأفغاني، وانبهار الطهطاوي، وإحيائية الألوسي إلى محاولة بناء «عقلانية إسلامية» قادت، منذ عشرينات القرن الماضي إلى صوغ تيار توفيقي أو حساسية نقدية في قلب الثقافة العربية، وبالذات في المرحلة التي يمكننا وصفها بـ «عصر التنوير المصري» والتي جسدها أمثال طه حسين بمنهجه الشكي في الدراسات الأدبية والذي ضمنه كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1925، وعلي عبد الرازق ومنهجه التاريخي النقدي في الدراسات السياسية والذي ضمنه كتاب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1926، ومحمد حسين هيكل ودفاعه عن الفلسفة الإسلامية، وعباس العقاد بنزوعه إلى استلهام العبقرية الإسلامية والبطولة الفردية لإحياء الشخصية العربية المسلمة، ومصطفى عبد الرازق بدعوته إلى تجديد الفلسفة الإسلامية.
غير أن هذا التيار لقي مقاومة شرسة من تيار آخر «سلفي»، شكل الاستمرار التاريخى للخطاب النهضوي العربي الموروث من القرن التاسع عشر، ولكنه إذ اعتبر نفسه الأمين على مرجعية الرواد، فقد أخذ يعيد تَمثُلها على أكثر قواعدها محافظة والتزاماً بالإسلام التقليدي على النحو الذي مثله رشيد رضا، والذي جسدته حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928 كأول تجسيد سياسي للتيار الإسلامي في الثقافة العربية المعاصرة.
جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وتطور هذا التياران الأكثر حضوراً في الثقافة العربية، كل في سياقه، فتماهى التيار التوفيقي مع الفكر القومي العربي الناصري والبعثي تقريباً، وخرجت من إبط التيار الإخواني تيارات سلفية تقليدية، وروافد جهادية، وبؤر تطرف، حتى وصل التياران إلى لحظة الاستقطاب الكامل منذ عقدين على الأقل، حيث تبلور الجدل حول كل قضايا الواقع العربي في ثنائيات متقابلة، بدءاً من القضايا ذات الطابع الثقافي كالنهضة والهوية، وصولاً إلى القضايا السياسية وخصوصاً العلاقة مع الآخر، وتنامى انقسام المجتمعات العربية إلى كتلتين شبه متعادلتين رمزياً وعملياً، وصولاً إلى تلك الحالة الفيزيائية النادرة الحدوث في المجتمعات الإنسانية، حيث التماثل في القوة، والتضاد الكامل في الاتجاه، إلى درجة تعوق تكوين «كتلة تاريخية عربية منسجمة» في وعيها وفي حركتها، قادرة على تجسيد دفق الحياة العربية وتأسيس مجرى رئيسي لتطورها التاريخي، وهنا أخذ الكثيرون داخل العالم العربي، وخارجه يتحدثون عن الاستعصاء الديموقراطي العربي، أي استمرار العالم العربي خارج إطار التحول في التاريخ العالمي.
اليوم، وبقوة الربيع العربي، تبدو المجتمعات العربية على مشارف العودة إلى مجرى حركة التاريخ، فحالة الاستقطاب في طريقها إلى التفكك، ليس بمعنى نهاية التناقض بين المرجعيتين، ولكن بمعنى الشروع في ممارسة هذا التناقض عملياً من خلال الجدل بين الثنائيات الحدية التي طالما استمرت في حالة سكون قاتل. وهنا تعود جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت قد شقت الطريق نحو هذا الاستقطاب، وأوقفت مسيرة الإصلاح الديني العربي منذ نشأتها قبل ثمانية عقود ونيف، إلى استئناف الطريق نفسه من خلال قيادة تيار الإسلام السياسي نحو المعترك السلمي، ابتعاداً عن العنف الذي مارسته السلفية الجهادية، أو حتى عن السلبية التي اعتادتها السلفية التقليدية.
وهنا نتوقع أن تعيش المجتمعات العربية، ومصر في القلب منها، مرحلة إصلاح ديني متأخر، تكمل عملية إعادة تنظيم العلاقة بين واقع الأمة العربية / الإسلامية وبين تلك الظاهرة التاريخية المستعادة والمتكررة والمركبة في آن، وأعني هنا ظاهرة اللجوء إلى تبرير السلوكات والمواقف السياسية بأكثر المكونات خصوبة في هوية الأمة، وأكثر المصادر قدرة على حفز روح الجهاد بين أبنائها وهو الإسلام.
* كاتب مصري
|