قلّ أن بخل ناقدو جامعة الدول العربية على هذه المؤسسة بالنقد وبعبارات السخرية والتهكم. وانصبت معظم الانتقادات والتقييمات المتشائمة على تسليط الأنظار على ضعف فاعلية الجامعة وقلة الصدقية التي تحظى بها في المنطقة العربية وفي المجتمع الدولي. وفي كثير من الأحيان لا يستهدف النقد الجامعة نفسها، كمؤسسة وكهيئات ودول أعضاء، بمقدار ما يستهدف الفكرة التي قامت عليها، أي الفكرة التي تقول إن ثمة رابطة تجمع العرب وتوطد علاقات الأخوة والتعاضد بينهم، وإن مثل هذه الرابطة تصلح أساساً لإقامة تجمع إقليمي يضم الدول العربية، تماماً كما تأسست وتتأسس تجمعات وتكتلات إقليمية في أوروبا وشرق آسيا والأميركيتين الشمالية والجنوبية.
وبصرف النظر عن العلاقة بين الجامعة وفكرة العروبة التي نهضت على أساسها، فلا ريب أن الجامعة تعاني فعلاً من مشكلة الصدقية. البعض يعزو هذه المشكلة إلى نظام التصويت الذي اعتمدته الجامعة حيث جاء في المادة السابعة من ميثاقها أن «ما يقرره مجلس (الجامعة) بالإجماع يكون ملزماً لكل الدول المشتركة (...) وما يقرره المجلس بالأكثرية يكون ملزماً لمن يقبله...». استطراداً، دعا البعض إلى استبدال هذا النظام بنظام جديد يقوم على اتخاذ القرارات بالأكثرية. هذه الخطوة لن تصلح أوضاع الجامعة كما قال روبرت مكدونالد في كتابه «جامعة الدول العربية: دراسة في ديناميكية منظمة إقليمية». ذلك أن مشكلة الجامعة الحقيقية ليست في اتخاذ القرارات، وإنما في امتناع الدول الأعضاء عن تطبيقها كما يقول مكدونالد. ولا يغير من هذا الواقع صدور القرارات عن أعلى المرجعيات الحاكمة أي مؤتمرات القمة العربية.
توضيحاً لهذا الوضع المأزوم يرى د. ناصيف حتي مدير مكتب جامعة الدول العربية في فرنسا خمس سمات رئيسية لصنع القرار في الجامعة. منها أن الغرض من القرار هو إضفاء «شرعية اللحظة» على أعمال المنظمة الإقليمية «ثم يصبح يتيماً (...) ومنسياً بالطبع». ومنها أيضاً أن القرارات «تتسم بالإبهام» وبطابع «المناشدة وتسجيل الموقف». وكل ذلك يسهل الإفلات من تنفيذ القرارات وتحويلها، في احسن الحالات، إلى نصوص مهملة في الملفات.
وبالطبع فإن الاستهتار بقرارات الجامعة لم يبقَ سراً مكتوماً داخل جدرانها، بل اصبح واقعاً مكشوفاً للجميع في المنطقة العربية وخارجها، ومعياراً للحكم على أعمالها ومرشداً لكيفية التعامل معها. وإذ اصبح هذا الواقع مصدر إحباط للمعنيين بتطوير العلاقات العربية - العربية ومسوغاً للتقليل من شأن الجامعة عند آخرين، فإن من المستطاع القول إن هذا التحول تفاقم في السنوات الأخيرة. فعندما اقترح على رئيس حكومة عربي أن ينقل شكوى تقدم بها إلى الجامعة، قرّع أصحاب هذا الاقتراع متهماً إياهم بأنهم يفتحون الباب أمام «تضييع حقوق بلده ووضعها في متاهات لا تغني ولا تسمن من جوع». وبعد أن صرفت السيدة كوكب الريس ثلاثين عاماً من عمرها في خدمة الجامعة لخصت تجربتها في كتاب عنوانه «جامعة الدول العربية.. ماذا بقي منها؟»، عكست فيه قلق ابنة البيئة العروبية الدمشقية بسبب واقع هذه المؤسسة البائس والمتراجع باستمرار.
كل ذلك يبدو اليوم وكأنه اثر من ماض سحيق. فالجامعة العربية اليوم تبدو مثل الأميرة النائمة التي استيقظت بعد أن طبع الأمير الشاب على جبينها قبلة الحياة. إنها في أوج نشاطها وذروة حيويتها. الاجتماعات والمؤتمرات والمقابلات فيها لا تتوقف. وهي محط الأنظار في الشرق والغرب. الحلف الأطلسي بما يمثله من جبروت، يقف على بابها منتظراً صدور قرارها حتى يحرك أساطيله البحرية والجوية. في المقابل تسعى دول «بريكس» إلى التنسيق والتشاور معها.
أما قرارات الجامعة، فقد تبدلت في الشكل والمضمون، كما تبدلت وتغيرت أيضاً مفاعيلها وتداعياتها وتوقيتاتها والتنبه الشديد الذي يرافق صدورها. حلت الدقة محل الإبهام، ولهجة التحذير والإنذار محل عبارات المناشدة والتمني، والعيارات الزمنية المحددة والبتارة محل المهل المفتوحة من دون توقيت معروف أو مهلة مقدرة. القرارات التي كانت تحال إلى دوائر الإهمال قبل صدورها، تحولت اليوم إلى محط اهتمام المجتمع الدولي ومادة غنية للتحليل، ومؤشراً إلى تطورات المستقبل القريب والبعيد.
الأهم من وقع الجامعة على الخارج، هو وقعها في الداخل، الداخل السوري حيث المعركة الكبرى. هنا تصل معركة تفعيل جامعة الدول العربية وقراراتها إلى ذروتها. ووفق ما جاء في تقرير نشرته صحيفة «هيرالد تريبيون» الدولية فإن «جدران العزلة بدأت تطبق بقوة على السوريين...» ووفقاً لتقديرات محللين اقتصاديين فإن الاقتصاد السوري سوف ينكمش بنسبة تتراوح بين 12 و20 في المئة هذا العام. ويقدر المحللون أيضاً أن آثار العقوبات ستطال سائر القطاعات بخاصة تلك التي ادخل عليها بعض التحديث مثل القطاع المصرفي حيث انخفضت الودائع بنسبة 20 في المئة خلال الأشهر التسعة الأخيرة، وقطاع البناء حيث توقف العديد من المشاريع، وإنتاج النفط الذي انخفض أيضاً بصورة ملموسة بسبب انخفاض الطلب على المنتجات السورية.
هناك أمران يلفتان النظر في هذه العقوبات وفي موقف جامعة الدول العربية تجاه الزلزال السوري. الأمر الأول هو فرادتها حتى في معايير العقوبات التي فرضت على دول عربية أخرى. وللمقارنة يقول تقرير «الهيرالد تريبيون» نفسه إن من المتوقع أن تفعل العقوبات على سورية مفعولها لأنها اشد وأقسى وأسرع وأوسع بما لا يقاس من العقوبات التي أنزلت بالسودان، على سبيل المثال، هذا مع العلم بأن السودان لم يتهم بتهديد امن المدنيين وحياتهم فحسب، بل اتهم أيضاً بممارسة أعمال الإبادة.
الأمر الثاني والأهم والذي يستحق اكثر من مجرد مقال سريع، في تقديري، هو المعاني المتضمنة في معركة جامعة الدول العربية ضد حكومة دمشق. وهنا يبرز عنوانان رئيسيان يصلحان لأن يكونا موضوعاً لبحوث مركزة حول النظام الإقليمي العربي وحول الفكرة العربية.
أولاً: إن هذه المعركة تؤكد صواب النظرة التي تقول إن معضلة العمل العربي المشترك وتخلفه لا تعود إلى نقص «طبيعي» و»أصيل» في ديناميكية العلاقات الإقليمية. إنها لا تعود إلى تمسك دول المنطقة الشديد والمبرر بمصالحها الوطنية ونزوعها عن التعاون الإقليمي. إنها لا ترجع إلى قاعدة «وطني أولاً»، وإلى أن الشعوب هي نفسها ترغب في أن ينحصر اهتمام الحكومات بالأوضاع الداخلية فحسب.
فهذه القاعدة جرى نقضها عندما أجمعت الدول التي تقود المعركة ضد حكومة دمشق على أن هناك «هماً قومياً عربياً مشتركاً» يفرض نفسه فرضاً على هذه الدول ألا وهو «حماية المدنيين السوريين»، وأن هذا الهم المشترك يبرر وضع الاهتمام بالأوضاع السورية فوق الأوضاع المحلية ولو لمهلة محددة. فضلاً عن هذا وذاك، فإن المجال الأفضل للتعبير عن هذا الهم «القومي» هو جامعة الدول العربية وليس المنظمات الأخرى مثل منظمة المؤتمر الإسلامي أو منظمة عدم الانحياز أو الاتحاد من اجل المتوسط، وإلا فلماذا هذا الإصرار على توسل الجامعة أداة للضغط على دمشق؟
ثانياً: إن المعركة التي تخوضها جامعة الدول العربية اليوم ضد حكومة دمشق هي تعبير عن إرادة سياسية لا غير. إنها نفس الإرادة السياسية التي أبقت الجامعة مشلولة لزمن طويل. والإرادة السياسية هي التي حركت الجامعة وأصحاب هذه الإرادة هم الذين طبعوا عليها قبلة الحياة. الإرادة السياسية هي التي تحول دون تفعيل قرارات الجامعة، والإرادة السياسية هي التي تحوّل جامعة الدول العربية إلى ما يشبه غرفة طوارئ عربية تراقب تطور الصراع في سورية وعلى سورية.
ما نود تأكيده هنا هو أن الإرادة السياسية ليست حكراً على الحكومات فحسب وإنما هي موجودة لدى الحكام والشعوب في نفس الوقت. هذا ما تؤكده بقوة الانتفاضات والمتغيرات العربية اليوم. فأي موقف تتخذه الإرادة الشعبية العربية تجاه المسألة السورية؟ إن الكثيرين يخشون أن تفضي هذه المسألة إلى فتح الباب أمام عودة «غورو» إلى دمشق تحت ستار حماية المدنيين السوريين. هؤلاء على حق في هذه الخشية.
هناك أيضاً كثيرون يخشون أن تمضي آلة الفتك والقمع في إزهاق أرواح المدنيين السوريين. وهؤلاء هم على حق أيضاً. الانتفاضة السورية ليست مؤامرة خارجية. الانتفاضة بدأت بالمطالبة بالإصلاح وبالانتقال إلى النظام الديموقراطي الذي يشمل التعددية الحزبية وتأكيد الحريات الفردية وسلطة القانون. هذه المطالب المشروعة لا تضر أحداً. بالعكس إنها تنشط الحياة الحزبية وتبث الروح والتجدد في المجتمعات. لئن حاولت قوى خارجية أن تستغل الصراع في سورية لغرض مشؤوم، وهذا ما يحصل في اكثر الحالات المشابهة للوضع العربي الآن، فإن الواجب يقضي بإغلاق أية ثغرة يمكن أن تمر من خلالها هذه المساعي. هذا يقضي الاستجابة إلى المطالب الإصلاحية والانتقال إلى الديموقراطية في أقصر برنامج زمني مستطاع ومع حصر الأضرار البشرية والمادية، وبأقل ما يمكن من التضحيات.
* كاتب لبناني
|