ثمة تشابه بين واقعتي تولي الهيئة العليا للإغاثة تمويل المحكمة الدولية، وعرض وزير خارجية سورية وليد المعلم عرض مقاطع فيديو من لبنان على أنها جرت في المدن السورية! ويتمثل التشابه في ما يخلفه الحدثان في المرء من ذهول، وما يطرحانه من مفارقات وأسئلة، ناهيك عن اشتراكهما في الصدور عن المأزق نفسه. لكن المشابهة ظاهرة لم تقتصر هذا الأسبوع على هاتين الواقعتين، فثمة ما يوازيهما أيضاً مما جادت على اللبنانيين به حال جماعاتهم الكثيرة. فما صدر عن البطريريك الماروني بشارة الراعي من تصريحات عن ضرورة عدم استقدام رعيته المسيحية عمالاً غير مسيحيين، وقد عنى بهم العمال السوريين، انما صدر أيضاً عن رجل نقل الكنيسة المارونية من موقع المتحفظ عن الدور السياسي والأمني السوري في لبنان، الى موقع المنحاز الى هذا الدور والخائف من سقوط النظام في سورية. ووازى ذلك وشابهه، ما برر به العماد ميشال عون قبوله تمويل المحكمة. فتصريحات الأخير نضحت بإشارات عن انتظاره أثماناً مادية. أي ما معناه: نقبل بتمويل المحكمة، لكننا نتنظر قبولكم تمويل مشاريعنا في الوزارات وتعيين مناصرينا في الادارات... فالمخالفات الدستورية التي سبق أن قال إنها سبب رفضه المحكمة، وخوفه على السلم الأهلي منها، وما تشكله من منصة للتدخل الدولي، كل ذلك يمكن تجاوزه اذا ما سهّل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تمويل الوزارات التي يشغلها وزراء ميشال عون.
لكن هنا علينا ان نشرح أوجه التشابه في الحالين. في الحالة الأولى، أي واقعة وليد المعلم وتولي الهيئة العليا للإغاثة تمويل المحكمة، ثمة تشابه في الاستخفاف بعقول غير الخصوم، أي أولئك الذين توجّه اليهم وليد المعلم ليثبت لهم ان ثمة عصابات مسلحة تنتهك المدن السورية، واذا بنا حيال صور من لبنان وليست من سورية أصلاً. وأيضاً استخفاف بعقول أولئك الذين لطالما توجه اليهم السيد حسن نصرالله وقال لهم ان المحكمة غير دستورية وغير قانونية ونحن لا نعترف بها، واذا بحكومة يشترك فيها الحزب تتولى تمويل المحكمة.
لا يقتصر التشابه على هذا الجانب، فثمة ثقافة تشكل أرضية واحدة للواقعتين - نوع من التشاطر الساذج، الذي يعرف صاحبه مقدار هُزاله، لكنه لا يكف عنه، لأنه لا يعرف غيره وسيلة وأسلوباً. فنائب رئيس الحكومة اللبنانية سمير مقبل قال بصراحة ان «أسلوب التمويل أضحك اللبنانيين»، ودلل على صوابية القرار بحقيقة انه «لم يبكهم». أما وليد المعلم، فمن الصعب الاعتقاد بأن وزارة خارجية دولة تطرح على نفسها مهمة التصدي للعالم أجمع يمكن ان تسقط في فخ من هذا النوع من دون ان تكون لذلك علاقة بمدى قلة اكتراثها بمن تخاطبهم، أي بجمهورها الذي تريده ان يتسلح بهذه الحجج وبهذا المنطق لكي يواجه خصومه الذين يدّعون ان الثورة ثورة حقاً.
اما في الحالة الثانية، أي ما صرح به الراعي من دعوة لعدم تشغيل غير المسيحيين، وما ينتظره ميشال عون من أثمان جراء تمريره «خرق الدستور وتهديد السلم الأهلي والسماح بالتدخل الخارجي»، فهما يصدران عن وعي أقلّوي مشترك، يتيح للأول المساومة على السيادة في مقابل ان يُفسح له مجال السعي الى بيئة مغلقة وطاردة لأي عنصر من خارجها، ويتيح للثاني قصر طموحه على فتات تعيينات ادارية وموازنات صغيرة، في وقت يعتبر الرجل نفسه امتداداً لدور مسيحي كان في السابق خلف فكرة لبنان، وصانعاً لدوره ولمعناه.
تشترك الوقائع الأربع في أمر آخر. فثمة ما يوحي بأن وراءها جميعاً رجلاً مستعجلاً، يحث الخطى من دون ان يدرك وجهته. يقول: «نمول المحكمة من خارج الحكومة، نمنع العمال السوريين من الوصول الى مناطقنا ونذهب الى دمشق لزيارة الرئيس بشار الأسد». ويقول أيضاً: «لا بأس، نقبض ثمن المحكمة، ولا يهم ما اذا كنت لاحقاً في قفص الاتهام تحت قوسها». ويضيف: «هيا، أريد أشرطة مصورة أخاطب بها من ينتظر مشاهدة مؤتمري الصحافي. هيا أسرعوا ولا تكترثوا بحقيقة انهم سيكتشفون في الغد زيف الأشرطة».
الرجل المستعجل الذي يحث الخطى والمتعثر هو نفسه، نقل لبنان بين ليلة وضحاها من أجواء رفض تمويل المحكمة الدولية الى مرحلة القبول بالتمويل. جرى ذلك في أعقاب إقرار مجلس الجامعة العربية عقوبات بحق النظام في سورية. اذاً ثمة حاجة الى خاصرة غير معاقبة تتولى امتصاص بعض تبعات الحصار. والسبيل الوحيد الى ذلك تجنيب لبنان تبعات قرار رفض تمويل المحكمة الدولية. وربما يقبل هذا الرجل ان تحتضن طائفة أو جماعة لبنانية الهاربين من المواطنين السوريين، وقد يقبل أيضاً بتهريب بعض السلاح الى سورية، فذلك لا يوازي في أضراره الفائدة من وراء «استقرار لبنان»، علماً ان تهريب السلاح قد يفيد في عسكرة الانتفاضة هناك.
مرة أخرى استفاد هذا «البلد المعجزة» من مصائب قوم آخرين. والفائدة عمـــت طرفــي الانقسام فيه. «14 آذار» فازت بتمويل المحكمة، وميـــشال عــون فاز بتعيينات ادارية وبموازنات لوزاراته، ورئيس مجلس النواب نبيه بري ظهر بصفة الساحر مبدع الحلول، ونجيب ميقاتي لم يُغضب طائفته... و «حزب الله»، نعم «حزب الله»، لم يفقد حكومته. اذا كان كل هؤلاء من الفائزين، فمن الخاسر إذاً؟ ما علينا إلا ان نقول انه العدو الإسرائيلي، وذلك بعد ان فوّتنا عليه فرصة استغلال خلافاتنا... لننتظر قليلاً ونرى كيف سيتداعى نظامه بفعل منعه من حصارنا.
|