ما حدث يوم 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بفض اعتصام 200 فرد من أسر شهداء ومصابي ثورة 25 كانون الثاني (يناير) بالقوة يدلل على انفصام تام بين ما يقوم به المسؤولون عن إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية وبين الواقع والتفاعلات التي تتم فيه. فهؤلاء المعتصمون كان بينهم من فقد بصره ورجله وأعضاء أخرى من جسده فضلاً عن أسر الشهداء الذين قتلوا برصاص الأمن. وعلى رغم ذلك اتبع معهم نفس الأسلوب والطريقة التي قتل بها أبناؤهم في السابق، وكأن الرسالة باتت واضحة: إننا كأجهزة تحكم لا نعترف بثورتكم وإذا كنتم انتم رمزاً لهذه الثورة فها نحن نفعل بكم مثلما فعل بكم النظام الذي تسمونه بالسابق حين قتلكم. كانت هذه رسالة المؤسسات الأمنية لشباب الثورة بمنطق إدراكها وبعدها عن الواقع، وأن الثورة انتهت بعد تظاهرات الاستعراض التي قام بها الإسلاميون في 29 تموز (يوليو) و18 تشرين الثاني الماضيين والذين هم بطبيعتهم ذوو مواقف غامضة حيال من يديرون المرحلة الانتقالية.
ومثلما لم يكن أحد يتخيل ما حدث من نتائج عقب ثورة 25 يناير، فمثل هذا التوقع حدث عقب تجيش الأمن في مواجهة بضع مئات من المعتصمين في الميدان يوم 19 نوفمبر. فبين ساعة وأخرى ومع تطور الأحداث أرجع ميدان التحرير عقارب الأيام إلى الوراء وعاد بها إلى يوم 28 يناير وما بعدها. هذه النوعية من الشباب أزيحت من المشهد بفعل فاعل على مدار الأشهر الماضية، ليحتل غيرها الساحة من دون وجه حق. لكن هؤلاء عادوا وتوافدوا بمئات الآلاف ليمتلئ بهم الميدان بشوارعه المحيطة حيث أصبح العدد ما يفوق المليون، لتبدأ معهم الموجة الثانية من الثورة بعد محاولات سرقتها وتمييع نتائجها. وقد عادت مظاهرها في مواجهة الأمن الذي لعب هذه المرة سياسة الكر والفر والهجوم المباغت عليهم من حين لآخر وتنوعت أسباب مواجهته لهم والتحصن في مواجهة وزارته بحجة حمايتها. إلا أن أبرز الملامح تمثلت في عودة التوحد حول هدف واحد متمثل في إسقاط حكم العسكر بعدما فتّتت القوى الدخيلة أهداف الثورة على مدار الأشهر الماضية بمطالب تحقق أهدافها الخاصة على حساب أهداف الثورة الحقيقية.
ومن هنا فسيناريو الموجة الثانية من الثورة يعيد تصحيح الأوضاع من جديد ويظهر مجموعة من الحقائق. أولاها: أن من يتصدرون إدارة المرحلة الانتقالية وبالأخص المجلس العسكري، يتصرفون بمنطق الوصاية والفوقية على الجميع، وبالأخص مع شباب الثورة حيث حصل تعمد في إذلالهم تبعاً لجرأتهم ونقدهم لهم. وهذه طبيعتهم المميزة لهم، فهم عندما قاموا بالثورة في سبيل الحرية والعدالة والكرامة لم تكن هناك بالنسبة لهم خطوط حمراء، ولذلك نجحوا في الموجة الأولى بإسقاط نظام مبارك. وعلى ما يبدو فان المجلس العسكري لم يدرك هذه الحقيقة.
ومن هنا كان الانطباع بأن قادة المرحلة الانتقالية لم يكونوا مخلصين للثورة، سواء بقلة الخبرة أو بتعمد التخفي في جلباب النظام السابق وهو ما يظهر في إدارتهم لهذه المرحلة وبالترتيبات السياسية والإجرائية التي جاءت بمنطق مقلوب: بالبدء في الانتخابات قبل وضع خريطة طريق لمستقبل مصر ممثلة في الدستور، وذلك نتيجة استفتاء «نعم ولا» على تغيير الدستور في 9 آذار (مارس) الماضي الذي سرق إرادة الشعب. هكذا نشأ عدم تكافؤ في الفرص لغير مصلحة شباب الثورة في مقابل المنتفعين من القوى السياسية والدينية في المجتمع.
ثانية الحقائق: كان هناك تعمد واضح للتعامل مع شبيبة الثورة بطريقة ممنهجة عبر تشويه صورتهم على مدار الأشهر التي مضت من عمر الثورة، سواء بتشويه الفتيات (كشف العذرية) أو استخدام أسلوب المحاكمات العسكرية مع رموز شبابها والإفراط في العنف تجاههم أو الاتهام بالخيانة والعمالة للخارج. وكلها وسائل لم تزدهم إلا إصراراً على الاستمرار. في مقابل ذلك كان هناك تعمد في إفساح المجال للتيارات الدينية، بالأخص السلفيين والجماعات الإسلامية، من أجل أن نرى مصر أخرى في جلباب ولحية.
ثالثة الحقائق: تتعامل الأجهزة الأمنية مع اعتصامات شباب الثورة وتظاهراتهم بنفس منطق الماضي وإن لم يفقْه في الإجرام. وما حدث في محيط ميدان التحرير وفي المحافظات المختلفة وتعمد القتل والتمثيل بالموتى يؤكد هذه الحقيقة. وهو ما صب في مصلحة الشباب الذي أصر أن يتواجد بمئات الآلاف في الميدان على رغم تسميم هواء الميدان والشوارع المحيطة به بالغازات. وبدلاً من حمل العلم إعلاناً عن الحب لمصر وجيشها بات الجميع مضطراً أن يسارع لشراء الكمامات لينقذ نفسه من الغازات (حيث هناك علامات استفهام حول كونها سامة أو محرمة الاستخدام). كل هذه التطورات والتفاعلات للمرحلة الانتقالية على مدار الأشهر الماضية جاءت بانطباع يبدو أن المجلس العسكري قد صدقه عن نهاية ثورة الشباب. وهكذا كان إلى أن جاءت أحداث 19 نوفمبر لتفاجئ الجميع بالكثير من الحقائق التي تعمد الجميع تجاهلها.
* كاتب مصري
|