خطباء 14 آذار مصابون بمرض لا براء منه على ما يبدو، هو الضيعويّة. إنّهم أعيان بلدات وقرى وأحياء، ولأنّهم كذلك في بلد شديد التفتّت فإنّهم ما إن يصعدوا إلى المنبر حتّى يبدأوا بتسمية المناطق والبلدات وتوجيه التحيّات لها. وهذا كان ليكون فولكلوراً ممتعاً يبعث في النفس ما تبعثه أغنية شهيرة لوديع الصافي يعدّد فيها كمّاً هائلاً من القرى التي تنتظر عودة مهاجريها. إلاّ أنّ 14 آذار، واللبنانيّين معها، ليسوا اليوم في هذا المعرض. إنّهم أمام منعطف سياسيّ كبير جدّاً يستدعي خطاباً سياسيّاً كبيراً جدّاً.
فالحركة المذكورة أرادت، من خلال مهرجان طرابلس، أن تقول إنّها لا تزال موجودة وقويّة وفاعلة، وإنّ لها رأياً آخر في مسائل الحكومة والمحكمة والسلاح، بل في الاستقلال الذي هو المناسبة الاسميّة للمهرجان، رأياً يراد له أن يوازن الرأي الآخر الذي يحتكر القرار الرسميّ. وهذا جميعاً من حقّ 14 آذار، بل من واجبها كقوّة سياسيّة، تماماً كما أنّ من حقّها وواجبها أن تعلن رأياً آخر، غير الرأي الرسميّ، في ما خصّ الانتفاضة السوريّة والوقوف إلى جانبها.
وهنا تحديداً بدت السمة الضيعويّة (الضيعجيّة) في أوضح تجلّياتها. فبدل التعامل مع مهمّات محدّدة تتناول أوضاع المعارضين السوريّين في لبنان، واختراق الجيش السوريّ، في تعقّبه لهم، الحدودَ اللبنانيّة، والدور المنسوب إلى السفارة السوريّة في لبنان ومعها بعض قوى الظلّ في خطفهم، والمواقف العربيّة والدوليّة للبنان الرسميّ وانعكاساتها السيّئة على مصالح اللبنانيّين...، بدل ذلك تسود إنشائيّات سقيمة عديمة النفع عن «العرب» و»العروبة» ممّا لا يطالب به أحد ولا يسأل عنه أحد.
هكذا تُبدّد فرصة أخرى لإغناء النقاش السياسيّ، وتسليح جمهور 14 آذار نفسه بحجج يستدعيها السجال الراهن، فيما يُترك للزجليّات والمدائح الفارغة والكلام العتيق عن «العروبة» أن يملأ الفراغ الذي يراد ملؤه. وإذا كان المؤيّدون اللبنانيّون للنظام السوريّ قد برهنوا ألف مرّة عن خوائهم، وعن اقتصارهم، من خلال الفضائيّات وبعض الصحف، على ترداد حجج النظام، فإنّ المؤيّدين للانتفاضة لم يستطيعوا خدمتها بأفضل ممّا استطاع مؤيّدو النظام خدمته.
فقد كان في الوسع، مثلاً، إفادة أهل الانتفاضة من بعض الدروس اللبنانيّة في الاحتراب الطائفيّ كما في التعايش. وكان في الوسع أيضاً رسم الحدّ الفاصل بين تأييد الشعب السوريّ، ومعه تأييد قيم الحرّيّة والعدل، وبين مسائل السيادة الوطنيّة لكلّ من البلدين. وكان في الوسع شرح الشراكة القائمة بين اللبنانيّين والسوريّين في المعاناة التي أنزلها بهم نظام واحد. وبالطبع، كان من المفيد جدّاً، وهو مطلوب دائماً، ممارسة نوع من الكبح الاستباقيّ لأيّ نزوع عنصريّ ضدّ العمالة السوريّة قد ينكص إليه النزاع السياسيّ في لبنان. وهذا، بدوره، لم يظهر له أثر في مهرجان طرابلس، على رغم السوابق غير المشجّعة، وعلى رغم الفتوى العنصريّة الطازجة التي صدرت عن سيّد الكنيسة المارونيّة.
ما من شكّ في أنّ الوعيين الضيعويّ والكونيّ مختلفان ومتفارقان تعريفاً. وليس من الصعب رصد الأسباب، السياسيّة منها كما الاقتصاديّة والثقافيّة، التي تحكم على الوعي اللبنانيّ بالضيعويّة. إلاّ أنّ الانتفاضة في سوريّة، ناهيك عن التحوّلات الهائلة التي تشقّ طريقها في عموم العالم العربيّ، تكشف اليوم فولكلورنا الضيعويّ والزجليّ بوصفه إعاقة تستدعي العلاج السريع.
|