التدهور الأمني في مصر هذا الأسبوع أعاد خلط الأوراق جذرياً، وربما الى الأفضل. بؤس إدارة المجلس العسكري للبلاد ما بعد سقوط الرئيس السابق حسني مبارك أعاد الشباب الى ميدان التحرير وقدم لهم - سهواً وليس عمداً - هدية ثمينة عنوانها استعادتهم زمام المبادرة بدلاً من الرضوخ أمام مصادرة الثورة على أيدي الإسلاميين. نزل العلمانيون والحداثيون ميدان التحرير مجدداً ليس بقرار مسبق منهم في مواجهة الإسلاميين، بل بدوا في مرحلة ما أنهم خضعوا للأمر الواقع وتراجعوا عن حماسهم للثورة والتغيير. نزلوا الميدان بعدما استنتجوا ان «جيش الشعب» الذي احتفوا به في كانون الثاني (يناير) الماضي انقلب على الشعب. شعروا ان ما حدث في يناير كان انقلاباً على عائلة، لا أكثر، وان المجلس العسكري بات الراعي للنظام السابق والطموح الى نظام يضمن له امتيازات فوق العادة - سياسية وأمنية ومالية. وعندما تعامل الجيش مع الشباب العائد الى ميدان التحرير ببطش وبشد شعر النساء، نزع عن نفسه الهيبة وكسرها بيديه. فشل المجلس العسكري في مصر في أكثر من امتحان وبات قائده المشير محمد حسين طنطاوي قائداً بلا هيبة لا يقود ولا يطمئن ولا يبادر إلا تحت الضغوط، وما الاستفتاء الشعبي الذي تحدث عنه سوى دليل على إنكاره ان الاستفتاء حصل في الميدان، وعلى عدم ادراكه حقاً لماذا تمرد أهل الثورة على المجلس العسكري دليل على ان المشير لم يفهم الثورة ولا أهدافها. ولذلك فما تشهده مصر هو ثورة على الانقلاب وبداية جديدة لثورة التغيير. قواعد اللعبة جديدة من الآن فصاعداً، ومن المهم لجميع اللاعبين داخل مصر وخارجها العودة الى طاولة رسم الاستراتيجيات. فهناك أدوار أساسية يجدر بالولايات المتحدة وبدول مجلس التعاون الخليجي ان تلعبها حالاً. ذلك ان الاستثمار السياسي الضروري في مصر لا يمكن ان ينتظر الى ما بعد استتباب الاستقرار، بل العكس. فالفرصة متاحة لدول فاعلة مثل المملكة العربية السعودية لأن تساعد شباب مصر في صوغ مستقبل بلدهم في ظل حكم مدني بعيداً من الإيديولوجيات والصراعات الدينية والطائفية. فمصر ليست وحدها في الامتحان والمستقبل العربي منوط الى حد كبير بمستقبلها. مجلس التعاون الخليجي يلعب دوراً بارزاً في صوغ النظام الإقليمي الجديد بتنسيق مع جامعة الدول العربية وليس قفزاً عليها فهي مفتاح أساسي للحؤول دون ترك صوغ النظام الإقليمي حصراً في يد تركيا أو دولة من دول مجلس التعاون فقط. كان هذا أسبوعاً جيداً للديبلوماسية الخليجية.
* فقد وقّع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، أخيراً على المبادرة الخليجية التي يتنحى بموجبها بخروج لائق هوالأفضل مقارنة بحكام تونس ومصر وليبيا ويأمل البعض ان يوحي للرئيس السوري بشار الأسد أن يصبو الى ما يشبهه.
* وباءت الديبلوماسية السورية بفشل ذريع في اللجنة الثالثة للجمعية العامة التي تبنت قراراً دعمته 122 دولة دان سجلها في حقوق الإنسان وزاد من عزلتها دولياً. وجاء ذلك بعدما عملت الديبلوماسية السعودية مع الديبلوماسية الأردنية في الأمم المتحدة وحشدتا دعماً عربياً لرعاية تبني مشروع القرار بدور فعال لكل من السفير السعودي عبدالله المعلمي والسفير الأردني الأمير زيد من رعد.
* وأنجزت الديبلوماسية السعودية عملاً هو الأول لها عندما طرحت في الجمعية العامة قراراً يطالب ايران بالتعاون في التحقيق في محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن مع توجيه التهمة في الضلوع في المؤامرة الى طهران. وحصل القرار على دعم كبير لم يكن متوقعاً.
* وقبل ملك البحرين بنتائج لجنة تقصي الحقائق المستقلة ووعد بإجراءات تحاسب المسؤولين عن استعمال القوة المفرطة لقمع المحتجين ووعد باستبدال المسؤولين عن الانتهاكات في ما وصفه بـ «فرصة تاريخية» للبحرين. وجاء في تقرير اللجنة ان قوات «درع الجزيرة» لم ترتكب تجاوزات خلال مهمتها، كما جاء فيه ان الأدلة لدى اللجنة لم تكشف عن «علاقة واضحة بين الأحداث المعنية ودور إيران».
* وأُعيد خلط الأوراق في مصر بما يفتح لدول مجلس التعاون الخليجي نوافذ على أدوار ضرورية. ان دعم دول مجلس التعاون الخليجي لمصر هو في مصلحة الطرفين سيما بعد أحداث الأسبوع الماضي التي أسفرت عن تعهد المجلس العسكري بالتخلي عن الحكم لدى اجراء الانتخابات الرئاسية في حزيران (يونيو) 2012. وهذه أول مرة يحدد المجلس العسكري موعداً للانتخابات الرئاسية.
يأتي ذلك بالتزامن مع اعادة تنشيط الحداثيين في الميدان الذي عادت اليه القوى المدنية ولم يعد مقصوراً على القوى الإسلامية. بل ان هذه القوى غادرت الميدان لإعادة النظر في استراتيجيتها التي قامت على التمسك بإجراء الانتخابات البرلمانية والتمسك برفض وثيقة المبادئ الدستورية التي تضمن ان تكون مصر دولة مدنية وديموقراطية بعيدة عن ثقافة الاحتكار. ثقافة الاحتكار تبدو ملتصقة بعقلية العسكر كما بعقلية الذين يرفضون فصل الدين عن الدولة. ما تشهده مصر اليوم هو ثورة الحداثيين على اصحاب ثقافة الاحتكار وهؤلاء في حاجة ماسة الى المساعدة علماً بأن لدى الأحزاب الإسلامية خبرة في التنظيم الحزبي ولدى المجلس العسكري خبرة في «التناغم» مع «الاخوان المسلمين» على حساب الحداثيين.
الأولوية لدى هذه القوى باتت اليوم خروج المجلس العسكري من السلطة بعدما بات المسؤول الأول عن تدهور الوضع الأمني وعن تراجع أهداف الثورة. دور الإدارة الأميركية بالغ الأهمية في هذا الصدد نظراً الى العلاقة المميزة بين وزارة الدفاع الأميركية والمجلس العسكري. وبين أبرز ما على الرئيس باراك أوباما وادارته ان يقوما به هو ابلاغ المجلس العسكري ان تعهداته بالتخلي عن السلطة يجب ان ترافقها اجراءات علمية قاطعة لا عودة عنها. هذه الإجراءات يجب ألاّ تقوم على أسس المقايضة على نسق مقايضة اقرار وثيقة الدستور مقابل ترسيخ دور الجيش كحامٍ للشرعية والمسؤول الوحيد عن مصير البلاد وعن الميزانية.
فالمجلس العسكري يسيطر على 40 في المئة من الاقتصاد وهو يخشى ان تخفف الحكومة المدنية المقبلة من قبضة الجيش على الموازنة، وهناك كثير من الكلام حول استفادة عديدين في القيادة العسكرية كما لتفشي الفساد والإفساد. وما أراده المشير طنطاوي هو ان يكون الجيش وحده معنياً بالسلم والحرب وبسرية، مما يضع الجيش في طبقة مميزة لا تخضع للنظام المدني.
هذه المطالب واجراءات «قوات مكافحة الشغب» أسقطت هيبة المجلس العسكري لدى شباب مصر، فتمردوا عليه. وهذا التمرد ليس محطة عابرة وانما يجب ان تكون محطة انطلاق الى مصر الغد. دول مجلس التعاون الخليجي، حسبما يقول أكثر من مسؤول رفيع وخبير في شؤونها، لا تريد «الاخوان المسلمين» ولا الناصريين ولا القوميين العرب مهما قيل عن دور بارز لقطر في رعاية وقيادة «الاخوان». وحسب أصحاب هذا الرأي، باتت دول الخليج في وفاق على ضرورة دعم التيار المدني في مصر. وإذا صح هذا فهو تطور مهم وضروري.
ما يجدر بدول مجلس التعاون القيام به هو: أولاً، اعتماد مبدأ ضخ الأموال في مصر بصورة مستعجلة للانقاذ بدلاً من التأني الى ما بعد نضوج معالم الاستقرار. ذلك ان ما تحتاجه مصر اليوم هو ضخ الأموال اليها كاستثمار في الاستقرار. وباستطاعة الدول الخليجية ضخ الأموال في البنك المركزي وفي وزارة المال لتمكين مصر من الوقوف بدلاً من التدهور الى فوضى عارمة. القطاع الخاص والمشاريع المشتركة تحتاج الى الاستقرار والوفاء بالشروط وهذا مفهوم. انما هناك وسائل عدة للطمأنة والدعم مثل طمأنة الجاليات المصرية العاملة في دول الخليج وتمكينها كي تكون قادرة على دعم الاقتصاد المصري بالعملة الأجنبية. فمصر في حاجة الى مشروع انقاذ يتضمن القروض والمعونات على السواء.
المصريون أنفسهم هم في صدارة مسؤولية الانقاذ ليس فقط عبر ميدان التحرير وانما على نسق ما قام به عدد من الديبلوماسيين المصريين بإصدار بيان احتجاج على ممارسات المجلس الأعلى للقوات المسلحة تضمن المطالبة بـ «وقف العنف والاعتداءات الممنهجة من قبل قوات الأمن على المتظاهرين» واجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. هذا البيان هو الأول من نوعه وخطوة جريئة من الديبلوماسية المصرية المتحفظة تقليدياً سيما في التعليق على أحداث داخلية. مصر ليست رهينة بين طنطاوي والقرضاوي. انها ورشة عمل مهمة للمستقبل العربي وليس للمستقبل المصري فحسب. عاد شباب ونساء الغد الى ميدان العمل وعاد الأمل بمصر التي تستحق كل استثمار في استقرارها.
|