يصعب نسب ما يجري في مصر اليوم الى عدد محدود من العوامل. فالقضايا العالقة التي تعبّئ عشرات ألوف المصريين وتدفعهم الى الشارع عديدة. كما أن المسائل التي تُفضي الى اضطرابات ومظاهرات ومواجهات وقمع وحشي كثيرة. لكن مقاربة عامة لما يدور في القاهرة منذ أشهر، في ما يتخطّى الشعارات السياسية المباشرة المُثارة يمكن أن تُحيلنا الى ثلاثة عناوين كبرى.
العنوان الأوّل، هو "نصف الثورة". فما جرى في مصر على عظمته، يبدو بعد مرور أشهر على وقوعه أشبه بالثورة النصفية التي لم يكتمل اقتلاعها للنظام السياسي المُهيمن. فهي أزاحت رأس النظام، وأزاحت معه عائلته وبعض محيطه المباشر في قيادة الحزب الوطني وفي بيئة رجال الأعمال المرتبطين به. وكان رهانها ربما أن تتكفّل الانتخابات والحكومة التي ستنبثق منها بالباقي. لكن الرهان لم ينجح، إذ بدت المرحلة الانتقالية بطيئة وطويلة وشبيهة معالمها وأساليب الإدارة السياسية فيها بثقافة العهد القديم إياه مع فارق وحيد في مشهد رأس هرمه. وهذا في ذاته محفّز على العودة الى الشارع لإنقاذ "نصف الثورة" من الانقلاب عليها أو من وأد احتمالات استكمالها المستقبلية.
العنوان الثاني، هو العنوان المرتبط بالمؤسسة العسكرية المصرية، مختصرة اليوم "بالمجلس الأعلى للقوات المسلّحة". فهذا المجلس بأفراده وما يمثّلون من نفوذ كبير في مؤسسة هي الأكثر تماسكاً وقوّة في مصر، وما يملكون من شبكات علاقات – من خلال المؤسسة – خارجية وداخلية، هو مجلس يجسّد الفلسفة السياسية التي أسّست للنظام المصري الراهن بصيِغه الثلاث التي شهدها بعد العام 1952 (أو بالأحرى بعد العام 1954، لأن محمد نجيب في محاولاته تقليص سيطرة العسكر على السياسة بدا من "مدرسة" مختلفة). وهي فلسفة يصعب ألاّ ينشأ عنها استبداد، ذلك أنها تحيل السياسة والشأن العام الى سلسلة قرارات وإجراءات يتطلّب تحقيقها انضباطاً من المجتمع وانصياعاً. وتعدّ كل مساءلة أو تمرّد إخلالاً بالأمن والاستقرار يوجب التعامل "الحازم". كما أنها فلسفة أفراد محافظين – ذكوريين نشؤوا على احترام تراتبيّات لا علاقة لها بمفاهيم القوانين الناظمة للتعاقدات الاجتماعية في الديمقراطيات، ويصعب مصالحتها مع هذه المفاهيم بعد أن شبّت وشابت على مبدأ الاستئثار المباشر أو غير المباشر بالسلطة وامتيازاتها. ولعلّ الارتباط العضوي بالسلطة هذا، مضافاً الى الاعتبارات الاستراتيجية والعلاقات بالخارج، هو أبرز ما يفسّر بطء إجراءات انتقال السلطة من المجلس العسكري الى السلطة المدنية، ولو ممثّلة بحكومة اختارها المجلس نفسه. وهو ما يفسّر أيضاً محاولات المجلس تمديد المرحلة الانتقالية وخلق مزاج عام وميزان قوى يسمح له بحجز موقع أساسي في المقبل من الأيام بعد الانتخابات التشريعية.
والعنوان الثالث، ارتباطاً بالعنوانين السابقَين، هو "توازن القوى". ذلك أن أي مسار لا يمكن أن يرسو على برّ قبل اتّضاح موازين القوى المتحكّمة به. والحالة المصرية تبدو الى الآن ضبابية، نتيجة تعدّد مراكز الثقل ونتيجة الانقسامات وبعض "الباطنية" في الحسابات والتحالفات. فبين الأخوان المسلمين والكتلة السلفية التي تبدو – رغم الاختلافات الجوهرية عقيدياً – أقرب إليهم، وبين بقايا الحزب الوطني و"الزعامات" المحلية المرتبطة به والمتحرّكة غالباً تحت مسمّى "مستقلّين"، وبين المؤسسة العسكرية ونفوذها في مناطق وقطاعات وقدرتها على اختراق كتل اجتماعية وسياسية وتوظيف بقايا الحزب الوطني لصالحها، وبين الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية التاريخية التي لم توحّدها المعارضة في السابق ولا العنوان المدني (كي لا نقول العلماني) راهناً، وبين القوى الشابة التي أطلقت الثورة في ميدان التحرير أو هي وُلِدت في رحمها، وبين المثقّفين والفنّانين والصحافيين المستقلّين أصحاب التأثير في شرائح واسعة من الرأي العام، وبين المتردّدين أو المُحبطين بعد تفاؤل استنفارهم الاستثنائي خلال أسابيع المظاهرات، وبين بعض الأطراف القبطية التي تطالب بحقوق مواطنية أو حتى طائفية حماية لهوية أو ذوداً عن انتماء ورفضاً لتمييز، بين كل هؤلاء، تبدو المعركة لتحديد موازين القوى الحقيقية جوهرية لفهم محاولات المماطلة في اتخاذ القرارات الحاسمة حالياً، وتبدو كذلك ضرورية لفهم ما سيجري في الانتخابات النيابية وبعدها. وإذا كان المرجّح هو تقدّم الإسلاميين عامة (على هلامية هذا المصطلح)، فإن قدرة باقي القوى على احتلال المواقع، وقدرة "العسكر" على فرض حصة وازنة لهم (بالتفاهم مع الإسلاميين أو بغير ذلك)، ثم اختيار رئيس قريب منهم، تبقى خاضعة لمساءلات ومعادلات مختلفة.
مصر إذن، تخوض غمار مسار سياسي شديد التعقيد أنتجته نصف ثورة. وهو مسار سيُنتج بدوره دينامياته ومعادلاته وتوازنات قواه التي لن تكون، في أي حال، إلا مؤقتة. ما يمكن بالمقابل الجزم بأنه غير مؤقّت، وهو من أهم إنجازات الثورة المصرية ولو غير المكتملة، هو العودة الى الشارع، بوصفه مرادفاً للفضاء العام حيث حقوق المواطنين والمواطنات في المساءلة السياسية وفي التعبئة والتلاقي والتواصل والاعتراض المنظّم. وهي حقوق تؤسّس لرفض نهائي للاستبداد وللهيمنة والتسلّط، وحقوق تؤسّس لإكمال الثورة وإطلاق مسار جديد، ولو بعد مخاض عسير...
|