زادت وثيقة المبادئ الدستورية الإسلاميين في مصر تماسكاً على تماسكهم تماماً كما ساهمت في مضاعفة أسباب الانقسام بين القوى المدنية المنقسمة أصلاً، وبدا الفارق واضحاً بين فصيل لا يستنزف عناصره ومؤيديه بمليونيات فاشلة، وحين يدعو لواحدة فإنه يوفر لها أسباب النجاح (من وجهة نظره)، وبين فصائل متناحرة اتفقت على مواجهة الإسلاميين والعسكر، لكنها لم تتفق على آليات تحقق لها النجاح سواء بالنسبة إلى مليونياتها أو خططها لتحقيق مكاسب في الانتخابات البرلمانية. قام الشعب المصري بثورته، ونجح في إقصاء نظام حكم حسني مبارك الذي استمر ثلاثين عاماً، لكن أخطر ما واجهته مصر بعد تنحي مبارك وتواجهه الآن أن القوى والتيارات والشخصيات السياسية التي شاركت في الثورة، أو حتى قفزت عليها وركبت موجتها تسعى إلى إقصاء كل قوة أو تيار أو شخصيات لا تشاركها الأفكار أو المبادئ أو المواقف! وقبل نحو أسبوع من أول انتخابات برلمانية حقيقية تشهدها مصر منذ نحو 60 عاماً تبدو القوى الرئيسة المشاركة في الانتخابات، وكأنها لا تريد أن تتنافس على أصوات المقترعين، وإنما أن تُفضي نتائج الانتخابات إلى استحواذ هذا الفصيل السياسي أو ذاك على مقاليد الأمور في البلاد، ليسيِّرها بالطريقة التي يراها، ويحدد مستقبلها بالأسلوب الذي يعتقد أنه يضمن بقاءه في الحكم من دون أن يلتفت كل فصيل إلى حقيقة أنه ليس وحده، وأن في المجتمع فصائل وقوى وفئات أخرى.
كل ما يجري في مصر الآن يعكس مساحة الاستقطاب على الساحة السياسية، واعتقاد بعض الفصائل أنها صاحبة الثورة، وأن من حقها، بعد تنحي مبارك، أن تُقصي الآخرين، وأن تأكل الكعكة وحدها، وأن مخاوف القوى والفئات الأخرى من «أسلمة» مصر أو «عَلمَنَتِها» مثلاً غير مبررة، وأن على القوى المنافسة أن تصدِّقها وتثق فيها رغم أن سلوكها وأفعالها ومواقفها لا تدعو إلى الثقة. أكثر ما يلفت الانتباه اعتقاد بعض رموز الثورة من مختلف التيارات بأفضالهم على الشعب المصري، علماً أن أي فصيل سياسي لم يكن ليستطيع تغيير نظام مبارك وحده أو حتى بالاتفاق مع الفصائل الأخرى، ولولا أن الشعب المصري كان مهيئاً ومعبئاً وجاهزاً للقيام بثورته لكان جهاز أمن الدولة كفيلاً بتوقيف الناشطين أو السياسيين والزجِّ بهم في السجون بتهمة العمل على قلب نظام الحكم.
يزداد الإسلاميون في مصر الآن تماسكاً، وهم يرون الغالبية البرلمانية آتية إليهم لأسباب كثيرة تتعلق بكونهم أكثر القوى السياسية تسديداً لثمن المواجهة مع نظام مبارك، حيث لم تخلُ سجونه يوماً من رموزهم وعناصرهم، وأيضاً لأنهم كانوا الأكثر التحاماً مع قطاعات الشعب بفعل نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي، بينما «القوى المدنية» ما زالت تسدد ثمن تشرذمها وتناحرها وأخطائها المتكررة. وعكس المشهد في ميدان التحرير يوم السبت الماضي طبيعة الفارق بين الإسلاميين الذين نفَّذوا عرضاً للقوة، وحشدوا أكثر من مليون في الميدان بسرعة ودقة وتنظيم مثير للإعجاب، وبين القوى المدنية التي أصرَّ بعض ناشطيها على البقاء في الميدان ليدخلوا في صدام مع قوات الأمن، حين سعت إلى فضِّ الاعتصام. قد يكون لدى الراغبين في الاعتصام مبررات منطقية لكن المؤكد أن الصدامات طرحت لدى قطاعات من الشعب المصري تساؤلات حول الفارق بين مليونيات الإسلاميين وتظاهرات الليبراليين، فالإسلاميون حضروا بالآلاف من غالبية المحافظات المحيطة بالقاهرة، واحتشدوا وهتفوا ورفعوا لافتاتهم، بينما القوى المدنية انقسمت أولاً حول المشاركة أو مقاطعة التظاهرة، ثم بدأت في تبادل الاتهامات حول صحة الموقف من المشاركة أو المقاطعة، فضرب الإسلاميون أكثر من عصفور بحجر واحد: فرضوا تعديل وثيقة السلمي بما يتوافق مع مطالبهم، واستثمروا براعتهم في الحشد، واختبروا قدرة مؤيديهم على تلبية النداء، ثم أخلوا الميدان في توقيت واحد.
إذا راجعت لوائح المرشحين في الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ الإثنين المقبل لن تجد رمزاً من الإسلاميين ينافس آخر على المقاعد الفردية، وإن بقيت المنافسة قائمة في شأن الانتخابات بالقوائم، أما رموز القوى المدنية فحدِّث ولا حرج، فالمنافسة بينهم على المقاعد لن تتسبب فقط في سقوط غالبيتهم، وإنما في منح منافسيهم من الإسلاميين فرصاً أفضل في الفوز. وفي المدن والقرى والشوارع تجد مرشحي التيار الإسلامي بين الناس، بينما دعاية مرشحي القوى المدنية تجدها على قنوات الأفلام أو أعلى كوبري «أكتوبر» الشهير، وسط إعلانات المياه الغازية والأجهزة الإلكترونية.. التيار الإسلامي يركز على الأساسيات.. أما القوى المدنية فوضعت نفسها في خانة الكماليات.
|