وحيد عبدالمجيد
لم يتوقع أي من المراقبين المشهد في القاهرة وعدد كبير من المحافظات المصرية الثلاثاء الماضي، وقل مثل ذلك عن دعاة التظاهر في ذلك اليوم. كان المشهد المفاجئ أملاً تطلعوا إليه أو أمنية حلموا بها، وربما آخرون معهم، ولكنهم فوجئوا به كغيرهم.
كان حجم المظاهرات أكبر من أي توقعات، وكذلك الحال بالنسبة إلى انتشارها في كثير من أنحاء البلاد، وخروج أعداد متفاوتة من المصريين العاديين البسطاء في مناطق لم يحدث فيها مثل ذلك من قبل. ولذلك بدا المشهد غير مسبوق منذ 34 عاماً عندما نشبت انتفاضة 18 و19 يناير 1977 التي دخلت تاريخ نضال الشعوب. كانت تلك الانتفاضة أكبر حجماً حين تُقاس إلى عدد سكان مصر في ذلك الوقت، فمن نحو 37 مليوناً حينئذ إلى أكثر من ثمانين مليوناً اليوم، تغيرت مصر كليا، وليس فقط ديموغرافيا.
ورغم أن مظاهرات 2011 لا تعتبر انتفاضة، فقد كانت أوسع نطاقاً من انتفاضة 1977 على المستوى الجغرافي، ولذلك ينبغي أن تأخذها الحكومة وغيرها من أجهزة الدولة بجدية شديدة. فقد استهانت بمقدماتها ما دام الداعون إلى التظاهر "شباباً افتراضيين يعيشون في فضاء الإنترنت"، وباعتبار أنهم في حاجة إلى توعية. وقد تستهين بتداعياتها بدعوى أن "الإخوان" هم الذين حركوها. وليت من يقولون ذلك لا يصدقونه، لأن معظم من نزلوا إلى الشارع شباب غير منتمين سياسيا أو فكريا، إنهم أبناؤنا الذين خنقتهم البطالة واستفزهم الفساد بعد أن "نفَّضوا" و"كبَّروا الدماغ" لفترة طويلة.
صرخ أحدهم قائلاً: "أول مرة أخرج في مظاهرة. خلاص اتخنقنا". إنهم شباب غير مسيسين أو منظمين في معظمهم. ولذلك كانت العشوائية ظاهرة في تحركاتهم، لكنهم جسدوا أنبل ما في مصر وهم يرفعون علمها ويحتضنونه.
والحال أنه ليس في إمكان أحد أن يصنع الغضب المكتوم في صدور كثير من المصريين فعلاً، والفقر ليس إلا واحداً من أسبابه التي تراكمت، ولذلك لا جدوى من محاولة رئيس الوزراء وبعض أركان الحكومة إقناع الناس بأنهم في أحسن حال استناداً إلى عدد أجهزة التكييف أو الهاتف المحمول. ولو أن الأزمة الآخذة في التفاقم محصورة في الفقر الذي نختلف على معدلاته وكيفية قياسه لجاز لأصحاب القرار أن يطمئنوا، ولكن الغضب ليس مقصوراً على الفقراء. كثير غيرهم غاضبون لأسباب أخرى من بينها الفساد والاحتكار وغياب المعايير وافتقاد التكافؤ في الفرص وسطوة المال الذي يشتري البشر وليس فقط الأشياء وغيرها.
هذا فضلا عن الانسداد السياسي وتبديد الأمل الذي خلقه الرئيس حسني مبارك في مطلع عام 2005، عندما طالب بتعديل الدستور لكي يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب، فقد التف حُراس الانسداد السياسي على ما بدا وقتها أنه إصلاح قادم، وجنَّدوا كل قدراتهم وخبراتهم لتفريغ التعديلات الدستورية من أي مضمون إصلاحي، بل أعادوا عقارب الساعة إلى الوراء عبر بعض تلك التعديلات. كان كاتب السطور أحد من تعلقوا حينئذ بالأمل في الإصلاح. ولذلك شارك في أعمال لجنة رفيعة المستوى شُكّلت في مطلع عام 2006 لبحث التعديلات الدستورية، وشهد عن كثب كيف خُنق الأمل الوليد بأيدي بعض من كانت المسؤولية الوطنية تفرض عليهم رعايته لتحقيق إصلاح تدريجي يقي البلاد خطر الغضب حين يتراكم إلى أن يصعب حبسه مهما كانت الأبواب مغلقة والقنوات مسدودة، وهذه قصة بالغة الدلالة قد يحين أوان كشف النقاب عنها قريبا.
فليس هناك سبيل إلى تجنب انفجار غضب الشعوب إلا العمل من أجل تلافي أسبابه ومنع تراكمه وفتح الأبواب المغلقة بشكل تدريجي بدلا من انتظار كسرها عنوة. ومازال هذا ممكناً اليوم، ولكن فرصته تتضاءل بسرعة بعد أن بدأت حركة الشعوب في عدد متزايد من بلاد المنطقة.
وإذ يقف المجتمع الدولي مدهوشاً وهو يكتشف للمرة الأولى أن في المنطقة العربية شعوبا، لم يعد ممكنا الاستمرار في تجاهل الحاجة إلى إصلاح جدي يُقنع المصريين الذين عرفوا الطريق إلى الشارع بأن هناك طريقاً أخرى أكثر أمناً وأقل تكلفة. فليس في الوقت متسع لمزيد من الرهانات الخاطئة في لحظة يقود فيها أي تفكير عاقل إلى إدراك أنها ليست كغيرها مما مر على البلاد في السنوات الست الأخيرة التي ظلت الحركة السياسية فيها قشرة على سطح جامد، وبقيت الاحتجاجات المطلبية معزولة عن بعضها البعض في مجتمع مفتت. ولم يعد ثمة خيار ثالث بين إصلاح سريع وانفجار لا يستطيع أحد توقع مداه، مثلما لم يكن ممكناً التنبؤ بما حدث الثلاثاء الماضي. هذه هي رسالة 25/1 إلى من يعنيه الأمر.
|