استطاعت الحركة الإسلامية وللمرة الأولى (ربما) في التاريخ الإسلامي أن تحول الدين من مورد بيد السلطة السياسية والطبقات الحاكمة والمهيمنة إلى مورد للمعارضة السياسية، ولكن المعارضات (الإسلامية) التي تصعد اليوم إلى الواجهة السياسية وتشكل الحكومات أو تشارك فيها تتحول إلى سلطة سياسية، فهل سيبقى الدين واحداً من أدواتها السلطوية؟ وتحوله إلى مورد سلطوي بدلاً مما كانت عليه الحال مورداً للمعارضة؟ الانتصار الذي حققته المعارضة كان في حقيقته جزءاً من صراع طويل على الدين، وتملك الحركة الإسلامية اليوم فرصة تاريخية أخرى في إعادة تموضع الدين في الموضع الصحيح والمفترض، وهو أن يحرر «الدين» من الدولة ويسند إلى المجتمع.
والواقع أن التجربة الإسلامية التاريخية في الولاية المجتمعية على الشأن الديني يعود إليها الفضل في التراث الإسلامي الفكري والعلمي القائم اليوم، المذاهب والأفكار والعلوم والتدريس والإفتاء والكتابة والبحث والتأليف والترجمة والمساجد والمدارس والحوزات والإمامة والصلاة والدعوة والوعظ والإرشاد والجدل الديني والفكري والعلمي والفلسفي المتعلق بالدين والمتشكل حوله بما في ذلك العلوم البحتة والتطبيقية، والحضارة العربية والإسلامية بعامة كانت منتجاً قامت عليه المجتمعات وليس السلطة السياسية، وفي كثير من الأحيان تكون الحياة الفكرية والعلمية في أوج وأزهى مستوياتها وتكون السلطة السياسية في الوقت نفسه في أسوأ حالاتها.
لم تكن السلطة السياسية في التاريخ الإسلامي دولة دينية وإن استعانت بالدين لاكتساب الشرعية والولاء أو قامت بأدوار دينية أو طبقت قوانين وأنظمة سياسية واجتماعية مستمدة من الإسلام، ولكن ظل الصراع قائماً على الدين بين السلطة السياسية والمجتمعات والمعارضات السياسية، ثم نجحت الدولة العثمانية متبوعة بالدول الحديثة بإلحاق المؤسسات الدينية بها، وإن استطاعت الحوزات الشيعية أن تستقل عن السلطة السياسية فقد تحولت هي الأخرى إلى سلطة سياسية دينية بقيام الثورة الإيرانية عام 1979، وهو ما نرجو أن تتجنبه اليوم الحركات السياسية الإسلامية في الدول العربية، وأن تقدم على إنجاز كبير فشلت فيه السلطات السياسية والدينية على مدى قرون عدة.
والحال أن الحركة الإسلامية هي الأكثر تأهيلاً لتحرير الدين لأنها تملك الجرأة إن أرادت لتفعل ذلك من دون أن تتهم بالتخلي عن الدين أو التقصير في واجباتها الدينية، فهي في موقع قوة اجتماعية وموضع ثقة دينية تجعلها غير متهمة، وتجعلها أيضاً اكثر حرية في الاجتهاد وتغيير مسائل وحالات أخذت بعداً دينياً وصارت جزءاً من الدين وهي ليست كذلك.
تبدو الحركة الإسلامية مستعدة لمشاركة سياسية قائمة على الانتخاب والديموقراطية، ولكن المنتظر منها أن تتخلى عن أدوار وقوانين دينية كانت تقوم بها السلطات السياسية من قبل، فتؤسس لدولة مدنية بالفعل، ومجتمعات مشاركة ومسؤولة معها ويناط بها كثير من الأدوار التي كانت تحتكرها الدولة، مثل الأوقاف والمساجد والإمامة، وإنشاء قانون للأحوال الشخصية يصلح لجميع المواطنين ويسمح باختلافات لفئات دينية أو مذهبية أو إثنية على أن يكون القانون العام حاكماً على الحريات والحقوق التي توصلت إليها البشرية، ويجب القول هنا إن القوانين الكنسية أكثر تشدداً في قضايا الزواج والطلاق من القوانين الإسلامية، ويمكن أيضاً للحركة الإسلامية أن توقف كثيراً من الممارسات الرمزية والتي تضفي طابعاً دينياً وهمياً مما تقوم به الحكومات والسلطات السياسية من تمييز ديني أو حرمان لأتباع الأديان والمذاهب الأقل انتشاراً.
سوف تبقى بالطبع إشكاليات متصلة بمجموعة من القوانين والقضايا المنسوبة إلى نصوص دينية بعضها يبدو واضحاً وقطعياً وبعضها جرت إزاءه اجتهادات وتفسيرات عدة، مثل العقوبات والبنوك وكثير من مسائل الأحوال الشخصية في الزواج والطلاق والميراث وتعدد الزوجات، وهي مسائل يفترض أن الحركة الإسلامية قد حسمتها بالاحتكام إلى السلطات التشريعية المنتخبة، ولكن المطلوب أيضاً من الحركة الإسلامية أن تستغل حظها السياسي والشعبي في اجتهادات ومبادرات منسجمة مع التطور الإنساني والفكري وليس العكس. ولكن الإنجاز الكبير المنتظر من الحركة الإسلامية هو أن تبادر وتسعى إلى إطلاق حالة من الحريات الشخصية والاجتماعية والدينية، والخوف الكبير أيضاً أن تشغل نفسها بلباس الناس وسلوكهم وأفكارهم ومعتقداتهم.
* كاتب أردني
|