لا يحق لأكثرية دينية أو عرقية في أي بلد في العالم أن تقول لشقيقاتها الأقلوية عدداً أو سلطةً أن تصمت. وإلا فهذه الغالبية تطمح للاستيلاء على السلطة والثروة (أو هي فاعلة هذا) ولا تنوي الشركة والمحبة. وعكس ذلك هو أن توافق هذه الغالبية على ميثاق مدني يبني الدولة العصرية ولا يفرّق بين المواطنين.
يحضرني ما جاء في مذكرات الرئيس الياس الهراوي عن اجتماع لحكومة الوحدة الوطنية عام 1983 حول التعيينات الإدارية لوظائف الدرجة الأولى، عندما أخرج الرئيس نبيه برّي قصاصة صغيرة عليها أسماء وقال: "إذا بدكن تقسّموا حسب الطوائف هيدي لائحتي وإذا بدكن تمشوا حسب الكفاءة سأرجع هذه اللائحة إلى جيبي".
يمكن القول إنّ معظم دول العالم اليوم هي مجتمعات متعدّدة في سكّانها، حتى تلك التي نظنّها تقتصر على لغة واحدة أو اثنية واحدة أو ديانة واحدة. ثمّة أكثر من 200 دولة في العالم اليوم يتحدّث سكانها أكثر من 600 لغة رئيسة وينتمون إلى 6000 جماعة اثنية. وانتشار هذه اللغات والاثنيات والديانات حول العالم يجعل من المستحيل أن يدّعي أي بلد صفاءً عرقيّاً أو دينيّاً أو لغويّاً، مع استثناءات قليلة. وليس أنّ هذا الاختلاط مستجدّ بسبب العولمة وسهولة المواصلات، بل هكذا كان العالم منذ فجر التاريخ: قبائل تغزو قبائل وممالك تغزو ممالك فيحصل تزاوج وتنمو التجارة، ثم تولد امبراطوريات متعدّدة الجنسية تسيطر على مناطق شاسعة من العالم القديم، امبراطورية الاسكندر المقدوني الهلينيّة والامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية ودولة الخلافة الاسلامية، وصولاً إلى امبراطورية نابليون والامبراطورية البريطانية "التي لا تغيب عنها الشمس"، والاتحاد السوفياتي السابق الذي ضمّ 118 جنسية. بقي من هذه الامبراطوريات المتعدّدة اليوم الولايات المتحدّة الأميركية التي تحتوي اثنيات وديانات داخل حدودها بلغت المئات في تنوّعها في 51 ولاية.
ويمكن المراقب أن يختار أيّ دولة في العالم ليدرسها عن قرب حتى تلك التي يظنّ أنّها "صافية" عرقياً ودينياً فيكتشف أنّها منسجمة في داخلها ظاهرياً فقط. وعلى سبيل المثال، فسكان فرنسا على الصعيد الديني ينتمون بنسبة 80 في المئة إلى الكنيسة الكاثوليكية و10 في المئة إلى الاسلام والباقي أقليّة بروتستانتية ومسيحية أخرى ويهودية. وعلى الصعيد الاثني ثمّة عنصر فرنسي ولكن هناك أصول عربية وافريقية وأقليات أوروبية متعدّدة. وعلى الصعيد اللغوي ثمّة لغة فرنسية طاغية ولكنّ الدولة الفرنسية اعترفت عام 2000 بست لغات مناطقية في الفلندر وبريتاني والحدود مع اسبانيا وفي الالزاس-لورين.
أمّا كيف تتجّه الدول نحو الانسجام الاجتماعي، فما كان يحصل في السابق داخل كل دولة حول العالم، ويحصل اليوم أحياناً، أنّ قومية كبرى ألغت قوميات أصغر منها، أو أنّ اثنية أو ديانة كبرى قضت على أثنية أو ديانة أصغر منها عدداً وقوّة إلى درجة الافناء، أو تمّ طرد مجموعات سكانية كبيرة خارج موطنها الأصلي. لقد استمرّ هذا النوع من "الحلّ" القسري لمشكلة الأقليات حتى اليوم، فقامت العقيدة النازية في ألمانيا على اساس محو كامل لليهود والأقليّات الاثنية كالغجر من أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية. كما يواصل الاستيطان اليهودي طرد الشعب الفلسطيني من أرضه منذ أربعينات القرن العشرين، في حين حصلت عمليات تطهير عرقي وديني كبرى في ولايات يوغوسلافيا السابقة في التسعينات من القرن العشرين. ووقعت مجازر مهولة في رواندا (أفريقيا) وصلت أرقام ضحاياها إلى مستويات مذهلة كادت تبلغ المليون انسان.
وعدا التطهير القسري، فإنّ حلولاً أكثر بديهيّة وأقل مأسويّة في التاريخ شملت فرض ديانة الملك على الأقليات (فعلت هذا الامبراطورية البيزنطية ومعظم دول أوروبا) أو امتصاص الفروقات اللغوية والاثنية والثقافية تدريجاً في لغة وثقافة واثنية الأكثرية السكانية أو الحاكمة (فرنسا، ايطاليا، تركيا). وقد وصل عدد كبير من الدول في اضطهاد أقلياته لدفعها إلى مناطق جغرافية معيّنة، غيتو أو ما شابه ذلك (الهنود الحمر في الولايات المتحدة)، أو عزلها وعدم التعامل معها وممارسة العنصرية ضدّها وحرمانها من ممارسة مواطنيتها كاملة ومنع أفرادها من الحصول على وظائف عامة أو تلقّي التعليم المناسب أو الخدمات من الدولة.
ولذلك فقد ابتدعت الأنظمة الديموقراطية سلسلة من السياسات والبرامج لتحقيق العدل تجاه الأقليات كمجموعات وطنيّة وليس كأفراد. التنوّع diversité أو التعدّدية multi-linguisme, multiculturalisme, multiethnicité في القرن الحادي والعشرين مهّد لعدد كبير من المعضلات المتفجّرة أحياناً، حول أقليّات وغالبيات داخل كل دولة، حيث يتصارع السكان حول حقوق اللغة والتميّز المناطقي والحق باستقلال ذاتي، والتمثيل السياسي ونسبته في مؤسسات الدولة، ومناهج التربية والتعليم وقوانين الجنسيّة والهجرة، وحتى في الرموز الوطنية، كاختيار علم البلاد ونشيدها وأي نوع من الأعياد والعطل – دينية كانت أم وطنية.
والمسألة تصبح أكثر تعقيداً في حال كانت هذه الدولة تعتمد نظاماً ديموقراطياً في الحكم. فيدخل أطرافها في نقاشات طويلة حول الحل المعقول لمشاكل الأقليات والأكثريات وأيّها يمكن أن يصمد أمام استحقاقات سياسية وتحديات التجربة وأن يكون عادلاً في آن واحد.
في كل مكان، وليس في لبنان فحسب، جرت محاولات بناء أنظمة ديموقراطية مستقرّة ولكن واجَهَتها انتفاضات عنف بسبب مطالب القوميات الصغيرة والجماعات الدينية الناهضة. ويتضّح هذا النوع من العنف خصوصاً منذ نهاية الحرب الباردة عام 1990، وكيف انهارت دول أوروبا الشرقية التي غرقت في العنف الاثني والطائفي (يوغوسلافيا على سبيل المثال). ولا يبدو أنّ أزمات العالم القائمة على عوامل اثنية ومذهبية ولغوية هي في طريق الانحسار. خاصة متى ارتبطت أقليّة ما بـ"ابنة عمّ" لها - في بلد مجاور أو بعيد - تشكّل فيه غالبية وتقرّر أن تلعب دور الحماية لابنة عمّها الصغرى. فيصبح الوضع دعوة مفتوحة "كارت بلانش" للتدخّل الخارجي.
ومن تاريخ لبنان وسوريا أمثلة كثيرة عن تدخّل فرنسا والنمسا لحماية الأقليات الكاثوليكية في المشرق (ومنها الموارنة) وانكلترا لحماية الأقليّة البروتستانتية، وروسيا لحماية الأرثوذكس، ما جعل السلطنة العثمانية سيّدة نفسها على أراضيها بالاسم فقط. ذلك أنّ السلطنة قد وقّعت اتفاقات مع هذه الدول فسمحت لها قانوناً بغزو أي ولاية من الولايات العثمانية باسم حماية "ابنة عمتها" (وفي حال فرنسا "الأم الحنون"، حماية طفلتها الكاثوليكية في الشرق).
( استاذ جامعي لبناني - كندا)
|