نبيل بومنصف
نادراً ما وجد اللبنانيون انفسهم في مواجهة حدث عربي يتفوق بجسامته على حقبات ازماتهم المتعاقبة منذ اكثر من 35 عاما وينافسها في انفعالاتهم، بمثل ما يحصل في اللحظة العربية الراهنة. فباستثناء الترابط "الابدي" بين المسألتين اللبنانية والفلسطينية، قد يكون زلزال الانظمة العربية الآخذ في الاتساع حاليا والمنذر بتناسل "الدومينو" المتساقط السابقة التاريخية الموصوفة بحق التي اقتحمت للمرة الاولى نمطا كلاسيكيا مزمناً درج معه العرب على ان يكونوا متفرجين على الشقيق الاصغر الشاغل دنياهم والعالم وحيدا بحروبه وانقساماته وازماته، لينقلب لبنان، حتى وهو في احدث ما اصابته به لعنة هذه الازمات، متفرجا هذه المرة.
بطبيعة الحال، لا نخال اي لبناني مرت عليه التجارب ويعرف معنى ما عاناه لبنان منها يجرؤ لوهلة على وقفة شامتة امام هذا الزلزال العربي. لا بل قد يكون الاصح، وهنا المفارقة اللبنانية الكبيرة، ان اللبنانيين هم اكثر من قد يعرفون التمييز الكبير بين ثورات تفضي الى تغيير ديموقراطي حقيقي واخرى لا تبقي ولا تذر ولا تخلف إلا الفوضى المديدة والتدمير العشوائي الاعمى كردة فعل مزمنة عنيفة ورهيبة على الطغيان والقمع والفقر والفساد.
لذا نخال اللبنانيين في غالبيتهم مشدودين بحرقة الى مشاهدة القاهرة تحديدا عرضة لمشاعر متناقضة وصاخبة في تمزقها. فلهذه العاصمة العربية العريقة، اكبر عواصم العرب بالمعنى المجازي والواقعي، استراتيجياً وعاطفياً، مكانة تمس الوجدان العربي عموما على امتداد اجيال وعقود. ولا مكان لدى رؤيتها في الايام الاخيرة عرضة لموجات "الثورة" الزاحفة ممزوجة بعوارض النهب والسلب والشغب، سوى للأسى وحده والخشية من ان تكون صفحة الثورة منذرة بـ"شرق أوسط" مجهول، لا ضمانات معه لتغيير ديموقراطي وصحيح وقلب صفحة قديمة لمصلحة صفحة تغييرية، في وقت كان التغيير الديموقراطي أشبه بنشيد رومانسي، أو لنقل أقرب الى سحر النيل وروائع أم كلثوم.
واهم من يظن ان اللبنانيين لا يستشعرون رهبة زلزال الانظمة، حتى وهم يتباهون بأنهم في البلد المتفرد بديموقراطية خاصة بهم، تفجرت بعض الانظمة العربية وقد يتفجر سواها لافتقادها اليها تماماً. وهي رهبة تنم عن خبرة عريقة ومعرفة بالفارق الذي يفصل بين واقع قائم وواقع منذر بالحلول مكانه.
واقع الانظمة القوية الاحادية المستقوية براديكالية السلطة القمعية واختصارها بالحزب أو الشخص أو الحاكم أنه حين تنهار تفجر أبشع ما تخلّفه، وهو انفجار الحقد والكبت. وما لم تكن الثورات محمية بقوى مؤهلة لقيادة التغيير وبرامجه، فثمة قاعدة تاريخية لا مهرب منها هي ان الفوضى وحدها سترث الحاكم والمحكومين وتأكلهما سواء بسواء.
وما يجري في هذا "الدومينو" السريع الانهيار من دولة الى دولة، لا يقارن بخصائص التجارب اللبنانية التي على رغم "عراقتها" في المحن تحتفظ لنفسها بالكثير من التمايزات، وليس أقلها وأهمها ان الديموقراطية اللبنانية، على علاتها، تبقى صمام الامان في الكثير من لحظات الشدة لمنع انفجارات أشد هولاً مما قد تبتكره خصوصيات الواقع اللبناني، حتى على أنقاض الانقسامات والتدخلات الخارجية ومن بينها التدخلات العربية نفسها. وليس سراً يفشى ان اللبنانيين على اختلاف فئاتهم وطوائفهم تعاقبوا ، وفق تقلبات تحالفاتهم، على الرهان على سقوط أنظمة عربية وتغييرها، إما علناً وجهراً وإما ضمناً وصمتاً. ومع ذلك فإن تزامن هذا الحدث العربي الصاعق والمتلاحق الحلقات مع الازمة الراهنة في لبنان يبدو كأنه مبدل للمعايير والنظرة، وعلى الاقل "مفرمل" للتهور في الشماتة والتصفيق كما في التحفظ والممانعة. شيء من العقلانية الباردة تراه في رهبة "الشاهد" اللبناني وتريّثه في الحكم على الانهيارات العربية الجارية واللاحقة. ولا غرابة في ذلك ما دام "الخيار العربي" محصورا بين الانظمة المتكلسة المكابرة أو الاصوليات والفوضى، وكلاهما مرّا بلبنان وبالكاد بقي فيه "ديموقراطية" تصارع أفضالهما.
|