حازم صاغيّة الاثنين 31 كانون الثاني 2011
ما من شكّ في أنّه لا يزال سابقاً لأوانه رسم صورة إجماليّة للوضع العربيّ بعد انتفاضتي تونس ومصر. فالانتفاضتان هاتان لم تستقرّا بعد على حال، كما أنّ خصومهما لم يكشفا بعد، لا سيّما في مصر، عن أسلحتهم كلّها. وربّما كان سؤال الأسئلة للمرحلة المقبلة: أيّ دور سيلعبه الجيش في البلدين، خصوصاً في مصر، وفي صوغ مستقبلهما السياسيّ؟. بل أيّ دور قد تلعبه المؤسّسة العسكريّة في بلدان عربيّة أخرى يخاف عسكريّوها من أن تمتدّ إليها الانتفاضات من دون أن تكون فيها حركات شعبيّة تستطيع المضيّ فيها إلى نهاياتها؟.
مع هذا يمكن أن نغامر بالقول إنّ جملة من المعاني برزت مؤخّراً، وهي ستترك آثارها، على نحو أو آخر، بغضّ النظر عن النتائج السياسيّة النهائيّة التي سيرسو عليها الوضعان: المعنى الأوّل، أنّه لم يعد ممكناً ولا مقبولاً أن تقوم أنظمة تتعالى على إرادة شعوبها كما تفرض توزيعاً للثروة بالغ الاختلال والعوج، فيما هي تتحايل على طابعها الجمهوريّ باعتماد مبدأ التوريث الملكيّ؟. وإذا كان من الطبيعيّ أن تُدان ظاهرات السرقة والنهب و"البلطجة" التي استشرت، وهي ظاهرات خطيرة و"بدائيّة"، وقد تكون مجهضة للانتفاضات، بقي أنّ تلك الأنظمة هي المنتج الأوّل لها، والمتسبّب الأوّل بها من خلال الاقتصادات المجحفة التي تربّعت فوقها.
المعنى الثاني، أنّه لم يعد يكفي القول بـ"الوسطيّة" و"الاعتدال" على نحو عديم الديناميّة وعاجز عن مخاطبة الشبّان والأجيال الصاعدة ممن تخلقهم مجتمعاتنا بكثافة غير عاديّة. فـ"الوسط" بين الصحّ والخطأ، وبين القديم الميّت والجديد الطالع ليس موقفاً حكيماً ولا مقبولاً. ومن ثمّ، يستحيل تحويل عدم المبادرة حيال تحوّلات ديموغرافيّة، أو حيال تحدّيات خارجيّة، إلى سياسة وإلى مبادرة.
المعنى الثالث، أنّ التحرّكين التونسيّ والمصريّ تركّزا على مسائل الخبز والحريّة والكرامة الإنسانيّة. هكذا طغت الهموم الوطنيّة الملموسة على القضايا الإيديولوجيّة المتّصلة بالصراع العربيّ – الإسرائيليّ أو الإسلام السياسيّ أو محاربة "الامبرياليّة" أو غير ذلك. في هذا المعنى، يمكن الربط بين الانتفاضتين وبين انتفاضة 14 آذار 2005 اللبنانيّة والانتفاضة الإيرانيّة ضدّ تزوير الانتخابات الرئاسيّة.
بيد أنّ هذا لم يلغ، ولا يلغي، الحذر الواجب من محاولات الإسلاميّين الراديكاليّين السطو على أعمال الاحتجاج وتحريكها وفقاً لأجنداتهم الإيديولوجيّة.
المعنى الرابع، أنّ الانتفاضتين سجّلتا تراجعاً هائلاً للأشكال الحزبيّة والتنظيميّة السابقة التي كانت التحرّكات الشعبيّة في العالم العربيّ ترتبط بها تقليديًّا. في المقابل، لعب "فايسبوك" و"تويتر" وسواهما من أشكال التواصل في الزمن المعولم دوراً بارزاً جدًّا في الربط والتنسيق والتشبيك، بحيث كان الإجراء القمعيّ الأبرز للحكومة المصريّة تعطيل تلك الأشكال. وهذا ما نشهده، في منطقة الشرق الأوسط،، للمرّة الثانية بعد تحرّك الشبيبة الإيرانيّة "الأخضر".
المعنى الخامس، أنّ التدخّل الغربيّ في دعم الديموقراطيّة لم يعد يذكّر البتّة بالمرحلة البوشيّة. إلاّ أنّه، مع هذا، يقف في محطّة بين محطّتين: من جهة، الرغبة في حصول تحوّلات ديموقراطيّة والتشجيع "الناعم" عليها، ومن جهة أخرى، الحفاظ على العلاقات والمصالح والاستثمارات التي تربط الدول الغربيّة بحكومات البلدان العربيّة المعنيّة. وهذا الأمر إذا كان طبيعيًّا في سلوك الدول، كلّ الدول، فإنّه يعلّمنا أنّ مجتمعاتنا كلّما نجحت في إثبات جدارتها السياسيّة والديموقراطيّة، نجحت في جرّ الغرب إلى مواقف أشدّ تقدّماً.
|