الخميس ٢٨ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٣, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
اللغة العربية لغة الثورات - محمد الاشهب

ارتبطت اللغة العربية بالشعر. فكان الشعراء في العصر الجاهلي يستطيعون أن يثأروا لقبيلة، فيرفعون من شأنها، أو يحطون من مزاياها ويهجون المنتسبين إليها. فاللغة كانت سلاحهم في معارك أديرت في زمن انقضى. لكنها لا تزال إلى اليوم من أخطر الأسلحة التي تستخدم في صراعات العصر، من خلالها يتم الغزو، وتهديد الهويات، ومن تبخيس مكانتها تنهار دول وأمم.


وتشاء معطيات لا علاقة لها بالتأويل اللساني في اللغة أن تنهض العربية من كبوتها، وتصبح رديفا للاحتجاج السلمي، عندما ردد المتظاهرون في وول ستريت شعاراتهم باللغة العربية التي فاجأت العالم بفصاحتها السياسية الرافضة للظلم والاستبداد، عبر شعار»الشعب يريد إسقاط النظام».


لم يكن الحدث ليمر من دون اكتشاف التفاعل القائم بين اللغة العربية ومقومات العصر الحديث. ولو كان في إمكان المتظاهرين الشباب في وول ستريت أن يحتفوا بشعراء المعلقات لفعلوا ذلك، إيماناً بأن اللغة الغربية باتت لغة الثورات والتحولات، وليس فنون القول التي تفوقت في إبداعاتها.


عندما أقرت الأمم المتحدة العربية لغة رسمية ضمن حزمة اللغات الحية التي تتقدمها الإنكليزية، اعتبر ذلك إنصافاً كبيراً لمكانة العربية، باعتبارها لغة التخاطب والعلم والقانون وكل أشكال المعرفة الإنسانية. لكن تكريس اللغة لم يوازه حضور مماثل للدول العربية التي أهدرت المزيد من الوقت والجهد في الدفاع عن قضاياها المصيرية، من دون أن يتحقق لها ذلك.
وكان نصيب اللغة في التأويلات القانونية والسياسية لقرارات الأمم المتحدة جزءاً من الصراع الذي لا يخفي تباين المواقف والمصالح.


لم تكن العلة في اللغة التي يتحدث بها ملايين العرب على امتداد قارات وعوالم، بل في الإخفاقات المتوالية التي عجزت عن رفع العالم العربي إلى المكانة التي تليق به، كمصدر للفكر والثورة والحضارة، على رغم توالي الانكسارات والأزمات. ولا يبدو أن النقاش الذي ساد على صعد أكاديمية وعلمية وميدانية حول مواطن القوة والضعف في اللغة العربية قد انتهى إلى التسليم بالنواقص. فثمة معاهد ورجالات ما زالوا يكافحون من أجل أن تتبوأ اللغة العربية الصدارة. رائدهم في ذلك أن اللغة عنوان الهوية. ولا هوية من دون موروث، ولا موروث من دون حضارة.


من المفارقات أن اللغة العربية التي عبدت الطريق أمام نشر الأدب والعلم وكل أنماط المعرفة التي صنعت الحضارة العربية، خلال عصور الازدهار والانفتاح الذي امتد إشعاعه عبر العالم المترامي الأطراف في أوروبا وإفريقيا وآسيا، هي نفسها التي قفزت اليوم على كل الحواجز والتصنيفات، ولم تعد خاضعة لقوانين المجتمعات التي انبثقت منها.


مشهد لافت، حدث في غفلة من الزمن الذي يريد أن يبقي على العربية تحت أسر الانغلاق. فقد ردد المتظاهرون الأميركيون في وول ستريت شعاراتهم المناهضة لهيمنة المال باللغة العربية، وهم يقتفون أثر الحراك الاجتماعي الذي نشأ في دول عربية تحت شعار «الشعب يريد». والأهم في ذلك الإيحاء الذي فجرته الظاهرة العربية الجديدة، بعد أن كاد الجميع يستسلم إلى أن المجتمعات العربية مثل لغتها ساكنة وخاملة.


تحررت اللغة من قيود الأنظمة، وتفوقت على الإنكليزية في عقر دارها، بل بدا الأميركيون مزهوين بالعربية أكثر من لغتهم الأصلية. كان ذلك نتاج حمولة ثورية في مثل العدوى الإيجابية التي لا تصيب من هم حولها فقط، بل تنتشر على نطاق واسع، كما الأفكار والمبادرات الإنسانية الخلاقة التي لا جنسية لها ولا لون. فقط تلتقي عند أهداف التحرر وإشعال القناديل المضيئة في ظلمة العتمة.
كان في وسع المتظاهرين الأميركيين الغاضبين ترديد المقولة الدالة على كل أنواع الإحباطات ومظاهر التذمر باللغة الأصلية، أي الإنكليزية، لكنهم فضلوا اقتباس روحها ومعانيها وألفاظها كما في تنزيلها الذي عصف بالعديد من القلاع التي لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها. ومن دلالات هذا الاقتباس أنه يعيد العالم العربي إلى الواجهة، مؤثراً في الأحداث، بل صانعها بامتياز، بعد أن كان مجرد متلقٍّ مهذب ينضبط لما كان يفرض عليه من قوانين وعلاقات وتصنيفات.


الأكيد أن اللغة العربية التي واجهت المزيد من التضييق ومحاولات التهميش، على طريق تفضيل اللغات الأجنبية التي ارتبط وجودها بمراحل الاستعمار الفرنسي أو الإيطالي أو البريطاني، هي التي تحولت إلى أداة طيعة تنبعث من حناجر المتظاهرين الغاضبين. ما أضفى على الثورات هوية عربية بامتياز. وكما أن الثورات لا تنمو وتكتمل خارج معطيات التربة الملائمة التي تصنف في خانة الشروط الموضوعية والذاتية، فإن التعبير عنها وتجسيد ملامحها وخصوصياتها لا يكون إلا بلغة الهوية.


وها هي العربية فرضت سطوتها على العالم المتحضر، بعد أن كان البعض ينعتها بغير مقوماتها. إنها فعلاً لغة شعر وإبداع وعلم. والأهم أنها لغة الثورة التي يصغي إليها الجميع، من ميدان التحرير في القاهرة إلى قلعة وول ستريت في نيويورك.

 



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
المغرب: زعيم حزبي يعد بعدم رفع الضرائب إذا تولى الحكومة المقبلة
المغرب: لجنة نيابية تصوّت اليوم على «تقنين» القنب الهندي
المغرب يعلن عن «استقبال استثنائي» لجاليته في الصيف
سياسي مغربي: الحزب المتصدر للانتخابات لن يتجاوز 80 مقعداً برلمانياً
«النواب» المغربي يناقش «تقنين زراعة القنب الهندي»
مقالات ذات صلة
الانتخابات المقبلة وضعف النقاش السياسي في المغرب - لحسن حداد
استياء مغربي من «تهجم على الملك» في قناة جزائرية
الجميع مستاء وسؤال المستقبل مطروح على المغرب - انتصار فقير
عن أزمة النخب السياسية في خطاب العاهل المغربي - بشير عبد الفتاح
الحركات الاحتجاجية المُطالبة بالتنمية تُوحَّد بين البلدان المغاربية - رشيد خشانة
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة