السبت, 29 يناير 2011
عمار علي حسن *
في مثل أيامنا قبل أربع وثلاثين سنةً قام المصريون باحتجاج عام على غلاء الأسعار، فرضخ الرئيس الراحل أنور السادات لإرادة المتظاهرين، وألغى القرارات التي أرهقت كاهلهم، ورضي بأنهم لم يستهدفوه هو شخصياً، ربما لأن شرعيته كانت متماسكة، فنصره على إسرائيل كان لا يزال غضاً، ولم تمر سوى شهور على إطلاقه سياسة «المنابر» التي مهدت للتعددية الحزبية بعد ربع قرن من إلغائها. قامت التظاهرات في كل ربوع الدولة في يوم واحد، وكان السادات يستريح في بيته الشتوي في أسوان، فطار إلى العاصمة ليعلن على الناس عودة الأسعار إلى سابق وضعها، محتفظاً بحكمه نحو خمس سنوات إضافية قبل اغتياله.
بينما كان المصريون يتأهبون لاستعادة ذكريات هذه الحركة الشعبية الخالدة، التي حاول السادات تشويهها فأطلق عليها «انتفاضة الحرامية»، كانت ثورة تونس تنطلق من مدينة صغيرة اسمها «سيدي بوزيد» حين أحرق الجامعي محمد البوعزيزي نفسه غبناً من بطالته المزمنة وكرامته الجريحة، فانطلقت من جسده المشوي شرارات سقطت في كل مدن تونس الخضراء، فخرج الناس يصرخون: «لنا العمل يا عصابة اللصوص».
هب الشعب التونسي، وأصر على التغيير، فهرب الرئيس زين العابدين بن علي، وانفتحت الأبواب أمام كل العرب ليمعنوا النظر في التجربة الفريدة، باحثين عن استلهام الطريق واستخلاص العبر، قبل تتبع الأخبار تترى من هناك بلا هوادة. ومن بين العرب يتفرس المصريون في «تجربة تونس» أكثر من الجميع، ربما لأنهم الذين بدأوا المناداة بتغيير أنظمة الحكم الحالية مع شعار حركة كفاية «لا للتمديد... ولا للتوريث» وتوالدت بعدها حركات اجتماعية صغيرة جميعها تروم الإصلاح السياسي الجذري، وربما لأنهم يشعرون أن ظروف بلادهم تشبه في جوانب عدة ظروف تونس. فإن كانت مصر تختلف في وجود هامش نسبي من حرية التعبير فإنها تتطابق مع تونس في تلاشي هامش حرية التدبير، حيث ألحقت أحزاب المعارضة بالسلطة وهبط وظيفتها من طرح البديل إلى مجرد ديكور للتعددية الشكلية، وماتت السياسة في الشارع والجامعات والمؤسسات، وعادت البلاد بمقتضى نتائج الانتخابات الأخيرة إلى نظام الحزب الواحد، والنقابات والمجتمع المدني يرسفان تحت أغلال قوانين حديدية جائرة، والسجون مفتوحة على مصاريعها لكل من يسعى على الأرض جاهداً في سبيل التغيير الحقيقي، والإعلام الرسمي يسبّح صباح مساء باسم الحاكم، ويقول: «كل شيء يجرى بفضل توجيهاته الحكيمة» ثم يشتم جماعة «الإخوان المسلمين» وينعتها على الدوام بأنها «المحظورة» ويقدمها «فزاعة» للغرب فيرضى عن النظام ويشدّ على يديه ويغض الطرف عن انتهاكاته، في تطابق تام مع ما كان يفعله الرئيس بن علي مع «حركة النهضة الإسلامية». وقبل كل هذا يتشابه البلدان في ذهاب عائد التنمية إلى جيوب القلة، بينما تعاني الكثرة من الفاقة والحرمان، وكذلك في الاعتماد التام على «قوة الأمن» في التحكم بمقاليد الأمور.
وأمام هذه الظروف التي تتشابه في الغالب الأعم يتوزع استلهام المصريين لتجربة تونس المجيدة في اتجاهات أربعة على النحو الآتي:
1 - تدرس السلطة في مصر ما جرى في تونس جيداً، لتصل إلى حيل وطرق تمنع تكرار التجربة على أرض النيل، في مقدمها التجنب الموقت لأية سياسات من شأنها دفع الأسعار مرة أخرى إلى الأمام، وعدم خنق حرية التعبير، وتوسيع هامش المناورة السياسية أمام المعارضة، وتخفيف القبضة الأمنية.
2 - تدرس مؤسسات معنية بمستقبل الدولة المصرية وأمنها الوطني الظروف التي من شأنها أن تؤدي إلى هشاشة البيئة السياسية والاجتماعية، من قبيل «غموض الوضع حول منصب الرئيس»، والإفراط في الاعتماد على الأمن، وحرمان المعارضة من التمثيل السياسي المناسب، وقمع قوى المجتمع المدني. وقد تضغط هذه المؤسسات في سبيل حسم أمور لمصلحة «الدولة» على حساب «النظام الحاكم» في الشهور المقبلة بعد اختلال طويل بين الكفتين لمصلحة الثانية، لتسد بذلك أية ذرائع لوقوع تغيير عنيف، وتفتح الطريق أمام تغيير طوعي يُصنع على أكف أهل الحكم، أو يأتي من داخل النظام، عملاً بالقاعدة التي تقول: بيدي لا بيد عمرو.
3 - تدرس قوى التغيير الجديدة، التي نشأت كحركات اجتماعية وسياسية واعدة وراحت تتوالد على مدار السنوات السبع الماضية، التجربة التونسية بغبطة شديدة، وتفتح نقاشاً على إعادة النظر في التكتيك الذي اتبعته وقام على ضرورة «التغيير من أعلى». فتجربة تونس بدأت اجتماعية محضة، وتصاعدت لتشتبك مع السياق السياسي الطبيعي وانتهت بخلع الحاكم، بينما بدأ المصريون تجربتهم بدعوة الحاكم إلى الرحيل أو التغيير الجذري من دون استحضار الشعب في المشهد، وتبنوا «أجندة» لا تزال ملتبسة في أذهان العوام حول الحريات العامة وتأسيس دستور جديد وإنهاء حالة الطوارئ، فانعزلوا عن الناس، ودخلوا في مرحلة «تآكل ذاتي» أورثتهم ضعفاً وتهالكاً في مواجهة السلطة. وما جرى في تونس قد يجعل النخبة المصرية المطالبة بالتغيير تعيد وضع «الخبز» إلى جانب «الحرية» بعد تجاهل وتغافل ونسيان، أو تطلق شعار «الطريق إلى الرئيس يبدأ بالرغيف».
4 - ما جرى في تونس يلهم الشعب المصري نفسه. فالتغيير هناك لم تصنعه أحزاب المعارضة ولا جماعات المثقفين، إنما بدأ بسواعد البسطاء واكتمل بهم، ودخل محترفو السياسة والإنتلجنسيا على خط الأحداث بعد أن اطمأنوا إلى قوة الدفع الجماهيري الرهيب. وفي مصر تراخت ثقة الناس في قدرة المعارضين على صنع البديل، لكن ها هم أهل تونس يقدمون نموذجاً ناصعاً في إمكانية أن يأتي التغيير من قاع المجتمع، ويتصاعد حتى يصل إلى رأس هرم السلطة.
قامت تظاهرات في وسط القاهرة وفي مدن أخرى، تجربة يدرسها الجميع، وإن حاولت السلطة ومؤسسات الدولة إظهار عكس ذلك.
* كاتب مصري
|