يورغن هابرماس
أوروبّا عرضة لنوبات من الارتباك والاضطراب السّياسيّ منذ نهاية شهر آب/أغسطس الفائت حول القضايا المثيرة للجدل والمتلازمة مع تفاقم النّزعات المناهضة للأجانب، كالاندماج، وتعدّد الثّقافات، واعتماد الثّقافة «القوميّة» كـ «ثقافةٍ مرجعيّة». ليست هذه النّزعات حديثة العهد، فالدّراسات والتّحقيقات تظهر منذ فترة طويلة حجم الكره المتزايد والمبطّن تجاه المهاجرين؛ أمّا ظاهريّاً فيبدو وكأنّ هذه النّزعات انبثقت بليلةٍ وضحاها. فجأةً، غادرت الآراء المقولبة الحانات لتقتحم البرامج الحواريّة وتحاصر خطابات السّياسيّين الأكثر ظهوراً على الإعلام والمتحرّقين إلى جذب ناخبين يغريهم الانحراف الحاصل نحو اليمين. وهكذا تعاقبت الأحداث بسرعةٍ بات من الصّعب تحديدها على المشهد السّياسيّ، وهما تباعاً، الكتاب الّذي صدر لعضو مجلس إدارة البنك المركزيّ الألمانيّ السّابق، والخطاب الّذي تلاه الرّئيس الألمانيّ المنتخب حديثاً.
توالت الأحداث عقب إصدار الكتاب الاستفزازيّ «ألمانيا تسير نحو الهاوية» لتيلو زاراتسين، وهو سياسيّ ينتمي إلى الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ (SPD) وعضو سابق في مجلس إدارة البنك المركزيّ. ويشير الكتاب إلى أنّ الهجرة «المضرّة» القادمة من الدّول الإسلاميّة تهدّد مستقبل ألمانيا، ويقدّم مقترحات عن سياسات ديموغرافيّة تستهدف المسلمين فيها. يقلّل تيلو زاراتسين العنصريّ من شأن الأقلّيّة الّتي يمثّلها المسلمون في ألمانيا مستنداً على أطروحة تبيّن انخفاض معدّل ذكاء المسلمين، لتصل بعدها إلى استنتاج بيولوجيّ خاطئ لقي تأييداً غير مسبوق في البلاد.
صحيحٌ أنّ الطّاقم السّياسيّ الحاكم عارض في البداية أطروحة زاراتسين، ولكنّ الرّأي العامّ أيّدها بدون تحفّظ، إذ كشفت التّحقيقات أنّ أكثر من ثلثي الشّعب الألمانيّ وافق على تشخيص زاراتسين الّذي يفضي إلى أنّ ألمانيا «تزداد غباوةً» بسبب الهجرة المتدفّقة إليها من البلدان الإسلاميّة.
بما أنّ إجابات علماء النّفس الّذين استشارتهم الصّحافة حول الموضوع تمثّلت بالحذر، تاركةً الانطباع بأنّ في تلك الادّعاءات عيبٌ ما، باشرت وسائل الإعلام بتغيير موقفها من زاراتسين، وبعد عدّة أسابيع، نشرت إحدى الصّحف مقالاً لعالم الاجتماع المحترم، أرمين ناصحي، يفكّك تفكيكاً منظّماً تحليل زاراتسين المرتكز على «حقائق» علميّة كاذبة، شارحاً أنّ زاراتسين اعتمد في أطروحته على طرقٍ لقياس الذّكاء تمّ دحضها بشكلٍ علميّ منذ عدّة عقود، لا سيّما في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
جاءت هذه التّهدئة العقلانيّة متأخّرة، فالسّمّ الّذي بثّه زاراتسين في الشّارع الألمانيّ باستقدامه براهين جينيّة لمفاقمة الكره الثّقافيّ الحاصل تجاه المهاجرين، تخثّر في الأحكام المسبقة الشّعبيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ اللّقاء الّذي جمع كلاً من ناصحي وزاراتسين في بيت الأدب في ميونخ أحدث جلبة في وسط المجتمعين المؤلّفين من الطبقة الوسطى المثقّفة الّتي رفضت مجرّد الاستماع إلى اعتراض ناصحي على البراهين الّتي قدّمها زاراتسين.
صحيح أنّ زاراتسين أُرغم على الاستقالة من منصبه في البنك المركزيّ الألمانيّ، إلاّ أنّ تنحّيه المقرون بالحملة الّتي شنّها اليمين الحريص أبدّاً على التّنديد بمفاسد «التّأديب السّياسيّ»، لم يساهما إلاّ في تجريد براهين زاراتسين الأكثر إثارة للجدل من طابعها المشين، ذلك أنّ الانتقادات الّتي تلقّاها اعتُبرت إفراطاً في ردّ الفعل. ألم تندّد المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل بالكتاب قبل قراءته؟ ألم يتغيّر رأيها منه مؤخّراً من حيث لا ندري، عندما صرّحت أمام شبّان الحزب المسيحيّ الدّيموقراطيّ أنّ التّعدّديّة الثّقافيّة تجربة عاشت في ألمانيا، ولكنّها باءت بالفشل؟ ألم يتعرّض رئيس الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ (SPD)، سيغمار غابرييل، وهو السّياسيّ المخضرم والوحيد الّذي هاجم ادّعاءات زاراتسين ببراهين بنّاءة، لمقاومة قويّة من الدّاخل، عندما اقترح طرد رفيقه زاراتسين غير المحبوب من الحزب؟
أمّا الحدث الإعلاميّ الآخر الّذي أثار بلبلة في ألمانيا، فردّة الفعل تجاه الخطاب الّذي ألقاه الرّئيس كريستيان وولف المنتخب بمناسبة الذّكرى السّنويّة العشرين على توحيد ألمانيا. عيّن وولف في فترة تولّيه منصب رئاسة حكومة ولاية سكسونيا السّفلى، للمرّة الأولى في الحكومة وزيرة ألمانيّة من أصول تركيّة، وشدّد في خطابه يوم الثّالث من تشرين الأوّل/أكتوبر السّابق أنّ الإسلام جزءٌ لا يتجزّأ من ألمانيا، على غرار الدّينين المسيحيّ واليهوديّ. لقي هذا الخطاب الرّئاسيّ ترحيباً حارّاً في البرلمان، إلاّ أنّ الصّحف التّابعة للمحافظين شنّت في اليوم التّالي هجوماً مريراً على تصريحات الرّئيس حول مكانة الإسلام في ألمانيا. ومنذ ذلك الحين يشهد حزب الاتّحاد الدّيموقراطيّ المسيحيّ (CDU)، الّذي ينتمي إليه وولف، انقساماً حادّاً.
كانت عمليّة اندماج العاملين الأتراك وعائلاتهم في المجتمع الألمانيّ ناجحة نسبيّاً، إلاّ أنّ المشكلات لا تخلو في المناطق الضّعيفة اقتصاديّاً بين الألمان والمهاجرين، حيث ينأى المهاجرون بأنفسهم عن غالبيّة السّكّان رافضين الاندماج. أقرّت الحكومة الألمانيّة بوجود هذه المشاكل وهي تعمل على حلّها، أمّا ما يثير القلق فعليّاً فوجود سياسيّين غير أخلاقيّين اكتشفوا أنّ بإمكانهم صرف نظر النّاخبين عن مشاكلهم الاجتماعيّة اليوميّة عبر تأجيج مشاعرهم العرقيّة والعنصريّة ضدّ مجموعات أضعف منهم، مثلما أظهرت حادثة وولف وزاراتسين. والمثال الآخر المثير للقلق يتمثّل في شخص رئيس وزراء ولاية بافاريا، هورست زيهوفر، الّذي أدلى بتصريحات تهين المهاجرين المسلمين قائلاً إنّ «المهاجرين المقبِلين من ثقافات أخرى» يضرّون ألمانيا، داعياً إلى وضع حدٍّ للهجرة القادمة من تركيا والدّول العربيّة. على الرّغم من التّحوّل العكسيّ الّذي تشهده الهجرة التّركيّة بحسب الإحصاءات، إلاّ أنّ زيهوفر يستخدم صورة الفوبيا لبلوغ أغراض سياسيّة خاصّة، وهذه الفوبيا عبارة عن مجموعة هائلة من الطّفيليّين يعيشون عالةً على المجتمع الألمانيّ، متغلغلين في قلب شبكاته المعقّدة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ العمل على تعزيز الأحكام المسبقة السّياسيّة لا ينحصر في ألمانيا فحسب. أقلّها، لم نصل في ألمانيا إلى ما وصلت إليه هولندا من اعتماد الحكومة على دعم نائب يمينيّ شعبويّ مثل غيرت فيلدرز... وعلى خلاف سويسرا أيضاً، لم تحظّر ألمانيا بعد بناء المآذن، كما أنّنا إذا اطّلعنا على بيانات حول كره المهاجرين في أوروبّا، نلاحظ أنّ ألمانيا لا تسجّل نتائج متطــرّفة. ولــكن، إذا أخــذنا بعين الاعتبار الفظائع الّتي كتبت جزءاً كبيراً من التّاريخ الألمانيّ، فإنّنا نتنبّه إلى أنّ مفهوم التّطوّر الاجتماعيّ والسّياسيّ في ألمانيا ربّما يحمل معاني أخرى، وبالتّالي، أليس منطقيّاً أن نتخوّف من انبعاث محتمل للعقليّات القديمة؟
إنّ الإجابة رهنٌ بما نقصده بالـ «قديم»، إذ لا علاقة لما نشهده اليوم بالثّلاثينيّات، ولكن، من المرجّح أنّ ما يجري اليوم يعبّر عن أحداث ترقى إلى بداية التّسعينيّات، حين أُثير الجدل حول طالبي اللّجوء في ألمانيا بسبب قدوم آلاف اللاّجئين من يوغسلافيا السّابقة, وأعلن آنذاك كلٌّ من الحزب الدّيموقرطيّ المسيحيّ (CDU) وشقيقه الاتّحاد المسيحيّ الاشتراكيّ البافاريّ (CSU) أنّ ألمانيا ليست أرضاً للهجرة، وكذلك تمّ افتعال الحرائق في مراكز اللاّجئين وساكنيها، فتقهقر الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ الألمانيّ (SPD) ووافق على تسوية بائسة حول قانون اللّجوء.
اليوم كما في السّابق، كلّما كان إذكاء النّزاع هو الهدف المنشود، استُحضر موضوع القوميّة المهدّدة الّتي عليها أن تفرض نفسها كـ «ثقافة مرجعيّة» ينحني أمامها الجميع، بفارق أنّه في التّسعينيّات، تمحور الجدل حول مسألة توحيد ألمانيا الغربيّة وألمانيا الشّرقيّة، الّذي كان ما يزال حديث العهد آنذاك، والشّعور السّائد في أنّ البلد قد اجتاز ـ وأخيراً ـ نهاية الدّرب الشّاقّة، واضطلع بعقليّة جديدة من شأنها إرساء الدّعائم الضّروريّة من أجل التّوصّل إلى فهم ليبراليّ للدّستور. أمّا اليوم، فمفهوم «الثّقافة المرجعيّة» لم يعد مرتكزاً إلاّ على فكرة خاطئة واحدةٍ مفادها أنّ على الدّولة اللّيبراليّة أن تفرض على المهاجرين أكثر من تعلّم لغة البلد واحترام مبادئه الدّستوريّة. كان يعوزنا في بداية التّسعينيّات، أن نمحو من أذهاننا فكرة أنّ على المهاجرين استيعاب القيم الثّقافيّة الّتي تمارسها غالبيّة السّكّان، واعتماد عاداتها كما هي... واضحٌ أنّنا اليوم لم ننجح في ذلك بعد.
إنّنا نواجه خطر الانتكاس في فهمنا للمسائل الإثنيّة المحدّدة في دستورنا اللّيبراليّ، أمرٌ سيّئ بحدّ ذاته، أمّا ما يزيد السّيّئ سوءاً فواقع أنّنا بتنا نربط «الثّقافة المرجعيّة» بالدّين وليس بثقافتنا الألمانيّة، فالمبشّرون بـ «الثّقافة المرجعيّة» راهناً، يشدّدون في خطاباتهم على التّقاليد المسيحيّة واليهوديّة باعتبارها السّمة الّتي تميّز المواطن الألمانيّ عن المهاجر، غير آبهين بتبنّي الأفكار اليهوديّة اليوم بعد الاحتقار الّذي لقيه اليهود وتقاليدهم من قبل في ألمانيا.
لا يساورني الانطباع بأنّ الدّعوات إلى اعتماد «الثّقافة المرجعيّة» تعكس ما هو أكثر من مجرّد تحرّك رجعيّ، ولا بأنّ وقوع أحد الكتّاب ضحيّة جدلٍ حول الفطريّ والمكتسب قد أسهم في نموٍّ سريعٍ أو مستديمٍ لمزيج خطرٍ يجمع كلاًّ من كره الأجانب والشّعور العنصريّ بالتّفوّق والدّاروينيّة الاجتماعيّة، ذلك أنّ مشاكل اليوم استحضرت إلى السّاحة الألمانيّة ردود فعلٍ مماثلة لتلك الّتي ترقى إلى الماضي القريب، وليس إلى ماضٍ أبعد منه في الزّمن.
لا أستخفّ بتاتاً بأهمّيّة المشاعر القوميّة المتراكمة، مع العلم أنّها ظاهرة لا تنحصر في ألمانيا فحسب، ولكن، على ضوء الأحداث الرّاهنة، أرى نزعة أخرى تثير القلق وهي ميل الشّارع إلى تفضيل شخصيّات غير سياسيّة على السّاحة الوطنيّة، وتُعزى هذه الظّاهرة إلى سمة غريبة من الثّقافة السّياسيّة الألمانيّة وهي رفض الأحزاب وسياسات الأحزاب. نشير على سبيل المثال إلى يواخيم جاوك المنافس الأبرز لكريستيان فولف السّياسيّ المخضرم، في انتخاب الرّئيس الفدراليّ الألمانيّ في الصّيف الفائت؛ وجاوك قسّ بروتستانتيّ مناضل في سبيل الحقوق المدنيّة ومناهض الشّيوعيّة في ألمانيا الشّرقيّة، وهو لا يتمتّع بأيّ خبرة سياسيّة، ولا ينتمي إلى أيّ حزب سياسيّ. والمثير للدّهشة أنّ جاوك نجح في نيل تأييد الشّعب وكاد أن يحظى بغالبيّة أصوات الهيئة النّاخبة وبالتّالي الفوز بمنصب رئيس ألمانيا.
ومن الأمثلة الأخرى على افتتان الشّعب الألمانيّ بشخصيّات لا دخل لها في النّزاعات السّياسيّة، نشير إلى وزير الدّفاع الألمانيّ كارل ثيودور زو غوتنبرغ الّذي لم يظهر مزايا أخرى غير خلفيّته العائليّة النّبيلة وتصرّفاته اللاّئقة وانتقاء ملابسه بحكمة، إلاّ أنّه استطاع أن يحصد شعبيّة طغت على شهرة ميركل.
إنّنا في أوروبّا في أمسّ الحاجة إلى طبقة سياسيّة ناشطة، من شأنها التّغلّب على انهزاميّتها عبر التّطلّع إلى آفاق مستقبليّة أكثر اتّساعاً، والتّزوّد بالتّصميم، وإرساء روحيّة التّعاون، فالدّيموقراطيّة رهنٌ بإيمان الشّعب بإمكانيّة العمل على بناء المستقبل ومواجهة تحدّياته كافّةً...
[ فيلسوف وعالم اجتماع وسياسة ألماني ترجمة أسيل الحاج عن «لوموند» الفرنسية
|