منى فياض
غريبة حكايتنا مع هاجس المؤامرة. فعندما تستنقع الشعوب العربية في أوضاعها المزرية، يكون في الأمر مؤامرة نجحت الأنظمة المدعومة من الاستكبار العالمي بتنفيذها. وعندما تحصل ثورة شعبية عفوية، تكون هناك مؤامرة ومدعومة هي أيضاً من جهات خارجية او متخفية لا نعرف أهدافها بعد. بالطبع ما يحصل في تونس يثير الدهشة والاستحسان، وكذلك البلبلة والتخوف على مصيرالثورة. والمدهش أنه في حين تتَّهِم الصحافة الفرنسية حكومتها بالتواطؤ طويلاً وحتى آخر لحظة مع حكم بن علي وعدم تجاوبها مع الثورة عند انطلاقها يتحفك محدثك بأنه لا بد من وجود مؤامرة غربية خلف أحداث تونس واذا لم تكن فرنسية فهي لا بد أن تكون أميركية، هي نفسها أميركا المتهمة بدعم نظام بن علي من الأصل!
والمؤامرة موجودة بالرغم من النقد الذي وُجّه إلى وزيرة الخارجية الفرنسية التي سبق لها أن عرضت، قبل اطاحة بن علي، بمساعدة الأجهزة الأمنية على "حفظ الأمن والنظام"! أي قمع الثورة. الوزيرة فسرت موقفها بأن "فرنسا مثلها مثل دول اخرى لم تكن تتوقع هذه الاحداث". مع ذلك يبحث البعض عن مؤامرة لكي يلام الغرب في حال التغيير وفي حال الجمود، في حال الانفتاح وفي حال القمع. المهم عدم الالتفات الى المسؤولية الداخلية والنقد الذاتي، الذي عندما يمارسه البعض يأتي الرد: لنكف عن "جلد الذات" .
ربما لطول الشقاء ولتجذر الخوف على أنواعه في العالم العربي، تصبح نظرية "المؤامرة" أسهل الحلول كي نريح أنفسنا من عناء المشاركة في الدعم او لتبرير التقصير في إحداث التغيير. إذ يصعب تصديق إمكانية التغيير بالسهولة التي بدا عليها الأمر في تونس، حتى الآن على الأقل. ولبنان خاصة لا يعيش إلا على "وقع المؤامرات": تلك المتوهمة، او تلك التي تحبك وتعرض على شاشات التلفزة وتلك الحقيقية أيضاً. وهذا ما يتخفف منه التونسيون انفسهم فلا يشيرون إلى مؤامرة حتى الآن.
تحيلنا ثورة تونس على انتفاضة الأرز الشهيرة، وتجعلنا نعاين الانحدار الذي وصل اليه الوضع في لبنان؛ أين كنا وأين أصبحنا؟ ففي وقت يطالب فيه التونسيون بالانتخابات الديموقراطية ويجدون أن مجرد تحقيق حقوقهم يمكّنهم من التقدم، نعاين في لبنان كيف تُداس الحقوق فتم ضرب نتيجة الانتخابات بعرض الحائط وكأنها لم تكن. يطالب التونسيون بتطبيق الدستور والقوانين؛ بينما في لبنان يتم القفز فوق القوانين ويتم تفسير الدستور بحسب مصلحة الجهة التي تقوم بذلك. يئس اللبناني من تردي الوضع ومن مآل ما كان مفترضاً أنه "ثورته السلمية" التي أبدى عناداً غير مسبوق من أجل دعمها وحفظها. صحيح أن الانتفاضة كانت تهدف بشكل أساسي الى رفض عمليات الاغتيال السياسي التي تحولت ظاهرة منظمة ووسيلة سيطرة وصار معظم المسؤولين السياسيين و أصحاب التأثير الاقتصادي او الايديولوجي ضحايا فعليين أو محتملين لها، وصحيح أيضاً أن المطالب الملحة كانت تتعلق بالحرية والسيادة والاستقلال، لبلد عانى من أنواع الهيمنة والاحتلال طويلاً؛ لكن الصحيح أيضاً أنها كانت تهدف ضمنياً إلى أكثر من ذلك، ولو لم يظهر الأمر كفاية بسبب الصراع المتعدد الاتجاه الذي عانى منه البلد. فانتفاضة الاستقلال كانت تهدف أيضاً إلى دعم دولة المواطنة؛ دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنية وكذلك القضاء على الفساد والزبائنية.
ولكن النظام الطائفي منع تظهير ذلك وأعان على طمس هذه المطالب وتحريفها، وهذا موضع الاختلاف الجذري عن ثورة تونس التي لم تعانِ من هيمنة خارجية ولا من انقسام طائفي.
إن جمهور انتفاضة 14 آذار، السلمي وغير العنفي، والمدني المواطني بامتياز كان يرغب في غالبيته بوطن يلبي طموحاته لجهة المواطنية والمساواة أمام القانون بمعناها العميق والشامل في وجه النظام الطائفي والمذهبي والزبائني. لم تتوضح هذه المطالب في البداية بسبب الأولويات الساخنة التي رافقت الانتفاضة والتهديد الأمني الذي أظهر فاعليته في اجهاض اي تحرك جذري. وهذا ما سمح للقيادات السياسية ، التي لا نغفل أنها تعرضت لهجمة أمنية شرسة بالطبع، ولكنها وبسبب من بنيتها وطبيعة تكوينها وانتسابها الى الطاقم السياسي نفسه التقليدي، سرعان ما تغافلت عن ذلك التوجه المواطني المدني ولم تلب طموحاته التي بقيت ضمنية ودخلت بازار التسويات غير المبدئية؛ لكي لا ألقي التهمة على السياسة، إذ يمكن السياسة أن تكون أخلاقية أيضاً . فعُقدت تحالفات واتُبعت سياسات مهادنة في الغالب حيث كان الجمهور يضيق بها ويؤكد في كل مرة تمسكه بانتفاضته وبمطالبه ليفرضها على قياداته التي ظلت بحاجة دائمة الى رقابته ودعمه عبر زخم التظاهرات العفوية الحاشدة التي كانت تفاجئ القيادات وعبر الاقتراع الذي كان أيضاً يفاجئهم في كل مرة.
لكن للأسف، استعادت اخيراً اللعبة السياسية التقليدية لياقتها وخيب آمال الجمهور الذي حلم بالحرية والديموقراطية والشفافية، خضوع ممثليه لمنطق التسويات الإقليمية غير العادلة والتي أدى تعثرها الى وضع البلد على محك منطق القوة والعنف من جديد . ومن هنا نلاحظ مفارقة الوضع في لبنان، فهو البلد الأكثر انفتاحاً وديموقراطية بين الدول العربية، لكن هذا لا ينفع الشعب اللبناني في ظل تحكم زعماء الطوائف ومصالحهم وامتداداتهم الخارجية. تجد غالبية هذا الشعب نفسها وخاصة المواطنين والمدنيين بينهم، خارج هذه المعادلة السياسية بالمعنى الأسوأ للكلمة. في ظل ضعف الدولة وتشرذم المؤسسات الرسمية وانقسامها من الداخل. فالدويلات لم تعد مناطقية أو جغرافية بل مؤسسية. المتحكم الوحيد باللبنانيين الآن هو الخوف. الخوف من الآخر والخوف على الذات أولاً ومن ثم على لبنان للبعض، والخوف من العدالة والخوف أيضاً من التحارب. ومن يهدد باستعمال القوة ربما الأكثر خوفاً! أما الأداة المستعملة لرد الخوف عن مختلف الأطراف فهو المواطن اللبناني، غير المنتمي الى جبهة حربية، في أمنه ولقمته ومستقبله.
وبينما يغرق لبنان في خوفه ويغيب المواطن الذي كان سباقاً في انتفاضته، نرى أن المواطن التونسي الذي طالما كان غائباً ينجح، وحتى إشعار آخر، في الإمساك بزمام المبادرة وفي التصدي للحكومة التي لا يزال رجال من النظام متحكمين بها ولذا يعجزون أو يحاولون عرقلة التغيير الجذري بالرغم من إبدائهم لنوع من الاستماع لمطالبه. وبينما يثور الشعب التونسي من أجل بناء دولته، دولة العدل والقانون، نجد أن الدولة في لبنان تُهدم على أيدي السياسيين المستقوين بالخارج. وفيما تستعيد الممارسة السياسية الديموقراطية البعيدة عن العنف أهميتها ووظيفتها في تونس تُمسخ السياسة في لبنان وتُبتذل ونخير بين العنف والعدالة .
الخوف سيد الموقف في لبناننا الأخضر. اننا نرزح تحت نير الخوف والقوة. جميع الأطراف ترتجف من الخوف. وفيما يمتلك احد الأطراف قوة يبدو أنها تفوق احتماله؛ يخاف الجمهور اللبناني المدني والمواطني من تهميشه والاعتداء على أمنه وعيشه وحرياته ولا يتسلح سوى بمعارضته للعنف والسلاح.؛ يدعم الدولة ومؤسساتها، ولكن يسأل عن حق: أين هي الدولة؟ ويقف عاجزاً عن التدخل أو التأثير!!
فلبنان يُسيَّر من فوق بالغلبة السياسية الممارسة عليه، يُسيَّر عكس التاريخ، وعكس اتجاه الجيل الشاب في المنطقة والذي يبدو صامتاً ومتخلياً عن السياسة، لكن هذا في الظاهر. فمن المستغرب أن يتم التهديد المبطّن في لبنان، ذي الميزة الوحيدة في أنه "بلد الحريات"، باللجوء الى السجن والقتل والتنكيل وان يتهم عبر مواقع مشبوهة الكتاب والصحافيين والمناضلين الوطنيين بالتجسس لأميركا، في وقت تُعلن فيه على الملأ براءة متهم ومحكوم عليه بالقرائن بالتجسس لمصلحة إسرائيل!! هكذا نكون نخرج طوعاً من التاريخ الذي بدأت تشهده المنطقة أمام عدم تصديق الأنظمة المستبدة.
تُداس الحريات في وقت صار فيه مطلب احترام حقوق الانسان الأساسية والبديهية مطلباً غير قابل للنقض ولا للتخلي. وهذا درس أساسي من دروس ما حصل ويحصل في تونس. القمع ينفع لفترة، لكنه لن ينفع في المدى الطويل، ويضرّ بمن يمارسه قبل أي أحد آخر. وتزيين القهر بشعارات لا يتبناها إلا المتعصّبون لها لأسباب مصلحية ونفعية بما يعاكس اتجاه الرياح العالمية، ونحن جزء منها سواء قبلنا أم أبينا، ربما يفيد على المدى القصير لا غير. في الأنظمة الديموقراطية، لكل فريق الحق باتخاذ الموقف الذي يريد، لكن لا يمكن ، بحسب الخيار والممارسة الديموقراطية الزام الآخرين به. هذا هو الفرق بين الديموقراطية والاستبداد. يجب التنبه أن زمن العنف والانقلابات العسكرية والقبضة الحديد قد ولّى سواء كان يمارس باسم الشعوب أو الأديان. إنه زمن جديد آتٍ ولو على دفعات؛ فجيل الانترنت والفايس بوك والتويتر يتواصل بحرية ويقيم شبكاته من أجل هذه الحقوق التي صارت بديهية بالنسبة له. المستقبل الآن لهذه الأجيال وليس للانقلابات العسكرية؛ ربما هو جيل يبدو أنه لا يتابع ولا يهتم بزواريب السياسة المخضرمة ولكن لديه من النضج والتطور الإنساني والوعي المواطني ما يجعله يجد بديهياً ما ترفضه الأنظمة الأثرية المتهالكة. فلتسرع بالإصلاح إذا استطاعت الى ذلك سبيلا.
ربما هذا ما يجعل النظام الايراني يحاول تجيير الثورة التونسية الديموقراطية لجعلها إسلامية بالقوة إذ ربما يحيد بذلك نظر الخضر الإيرانيين عنها بحيث لا تسول لهم انفسهم تقليدها ما دامت إسلامية مثل ثورتهم....!!
المهزلة ان كل طرف في لبنان ينسب الديموقراطية والشفافية الى نفسه وإلى من يسنده وينزّه الأطراف الخارجيين الداعمين. الاستبداد والقمع والفساد هي صفة من يدعم "عدوي الداخلي"، بحيث تصبح الوهابية أشد تأثيراً في لبنان وأخطر عليه من ولاية الفقيه!! لا ندري بعد لماذا؟
في الواقع لا تمتاز الاطراف الخارجية الداعمة للداخل عن بعضها البعض لجهة الديموقراطية او الشفافية، وبالتالي يفقد التعيير بالاعتماد على خارج دون آخر اي تمايز فمعظم الأنظمة المحيطة بنا هي أنظمة قمعية، لكنها تختلف في نوع القمع وشدته. أماالفساد فهو الآن صفة عالمية لا يمتاز بها بلد عن آخر سوى بإمكانية المحاسبة والمساءلة التي تختفي في بلدان الجوار ولكنها أكثر تأثيراً في البلدان الغربية. ولا يكفي أن ينعت أي نظام نفسه بالثورية لكي يكون ثوريا او ديموقراطياً او شفافاً. يجب نزع الأوهام من رؤوسنا، لا مفاضلة بين نظام وآخر وجهة وأخرى إلا في نسبية ابتعادها عن الدموية والعنف وفي القدر التي تحفظه لنا من الحريات على أنواعها.
(استاذة جامعية)
|