الأحد, 23 يناير 2011 خالد الدخيل *
يبدو في هذه اللحظة أن كلا من تونس ولبنان يقف عند مرحلة مصيرية وحاسمة. في تونس إنتفض الشعب، ونزل إلى الشارع بقضه وقضيضه ضد النظام السياسي للرئيس زين العابدين بن علي. هرب الأخير عندما تأكد أن الإنتفاضة الشعبية في حالة تصاعد مستمر رغم سقوط القتلى والجرحى، وأن المؤسسة العسكرية لم تعد إلى جانب الخيارات التي كان يرتأيها للخروج من المأزق. كأن الرئيس تأكد بأن حكمه الذي إمتد لما يقرب من ربع قرن من الزمن وصل إلى خواتيمه النهائية. ومع ذلك لا يزال الشعب التونسي، وبعد هروب الرئيس، يواصل ضغطه على الحكومة التي تشكلت، مطالبا إياها إما بالتنحي جانبا، أو بإنهاء حقبة بن علي، وحقبة حزب التجمع الدستوري، والشروع في إستئناف سياسي جديد. اللافت في كل ذلك، والجديد فيه عربيا، أن الحكومة الجديدة تعطي أكثر من مؤشر على أنها تشعر بالضغوط الشعبية. على العكس من تونس، يبدو لبنان في هذه اللحظة نموذج صارخ للحالة العربية القديمة التي تكشف عن رثاثتها وروتينيتها المملة مرة بعد أخرى. يختلف لبنان عن بقية الدول العربية الأخرى بإنفتاحه الاجتماعي، وبهامش الحرية الذي يتيحه نظامه السياسي. هذا صحيح. لكن الصحيح أيضا، وهذه مفارقة، أن لبنان هو البلد الوحيد عربيا الذي يحكمه زعماء الطوائف، وليس الدولة، ولا يكل من إستعادة الصراع بين هؤلاء الزعماء عند كل منعطف، وهو صراع دائما ما يستعيد حيويته رغم أنه يمتد لقرون من عمر منطقة الشام. ولهذا ربما أنه من الطبيعي أن أكثر ما يلفت في المشهد اللبناني أن الشعب يبدو خارج اللعبة، وخارج المعادلة السياسية. ولعل في ما قاله الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط يوم الجمعة الماضية، من أنه إختار أن يكون «إلى جانب سوريا والمقاومة» دلالة أكثر من واضحة على طبيعة الحالة اللبنانية. حاليا يدور الصراع في هذه الحالة على موضوع المحكمة الدولية: الزعيم السني، سعد الحريري مع المحكمة لمعرفة من قتل والده، رفيق الحريري. زعيم الشيعة، حسن نصرالله ومعه سوريا، يقف ضد المحكمة لأنه يقال أنها سوف تتهم عناصر من «حزب الله» الذي يتزعمه. وقد إنقسمت البلد بين الطرفين. كان جنبلاط مع الحريري. ثم بعد 7 مايو (أيار) عام 2008م إنزاح جنبلاط إلى الوسط بين الفريقين. يوم الجمعة الماضية إختار جنبلاط أن يميل أكثر ليكون، كما قال، إلى جانب سوريا والمقاومة. وهذا من نوع التكاذب السياسي السائد في منطقة الشام. وإلا كيف يكون جنبلاط إلى جانب مقاومة لم يسمح لها أن تنطلق من الجولان على مدى أكثر من 40 سنة؟
لم يكن بإمكان جنبلاط أن يكون إلى جانب الشعب اللبناني. لأن هذا الشعب منقسم، وليس أمام زعيم المختارة إلا أن يختار. رغم معرفته التامة بأن مصطلح المقاومة أصبح ملتبس تحت وطأة الصراع الطائفي، وأن نصف الشعب اللبناني بسبب ذلك لم يعد متأكدا من يمثل هذه المقاومة، إلا أنه يعرف أيضا بأن الفريق الذي يعتبر نفسه يمثل المقاومة يملك فائضا من القوة لا قبل له بمواجهته، كما تأكد في 7 ايار المذكور. وإذا صح ذلك، وهو الأقرب إلى الصحة، فإن السلوك السياسي لجنبلاط منذ إغتيال صديقه رفيق الحريري عام 2005، وخاصة خلال السنتين الماضيتين، يعبر عن حالة مستعصية من فائض الخوف. ليس بالضرورة الخوف على شخصه هو، وإنما الخوف على طائفته الصغيرة، والخوف على لبنان من أن يغرق في حمام من الدم، كما يقول دائما. بموقفه هذا، يمثل جنبلاط الحالة المقابلة لحسن نصرالله، الأمين العام لـ»حزب الله». حيث ينم السلوك السياسي لهذا الأخير عن شعور مكثف بفائض القوة. فهو الزعيم اللبناني الوحيد الذي يملك قوة عسكرية ضاربة. وعدا عن أنه يعتمد ماليا وعسكريا على إيران، إلا أنه يحظى بدعم سياسي سوري كبير ليس فقط في مواجهة المحكمة، بل أيضا في مواجهة الأطراف الأخرى التي خرجت من لعبة التحالف مع سورية، سواء من بين السنة أو المسيحيين. ما هي النتيجة التي يؤدي إليها ذلك؟ عندما يتصرف الزعماء السياسيون إنطلاقا من مشاعر الخوف من الدم، والخوف من العدالة، والخوف من بعضهم البعض، فإن الشعب الذي يمثله هؤلاء يصبح موضوعا للعبة السياسية، وليس طرفا فيها.
عندما تقارن المشهد السياسي في كل من تونس ولبنان تتبين لك علامات أكثر دلالة على الإفتراق بين حالتين سياسيتين عربيتين، تمثل كل منهما حالة فارقة بحد ذاتها. في الحالة التونسية يحتل الشعب صدر المشهد، ويبدو كأن رجال السياسة يحاولون الإلتحاق بمطالب الشعب. يغلب على الخطاب السياسي في تونس هذه الأيام مفردات مثل: الحرية، وتغيير النظام السياسي، ومحاسبة الفساد والمفسدين، وحق المواطن في العمل والعيش بكرامة. لا تسمع في تونس حديثا عن المؤامرة، لا فرنسية ولا أميركية. كل أصابع الإتهام تتجه للداخل قبل الخارج. تشير مفردات المشهد التونسي كلها، وبشكل مفاجئ في البيئة السياسية العربية، إلى إحساس فائض بالمسؤلية أدى إلى دخول الشعب وبقوة كطرف فاعل في المعادلة السياسية للبلد. والمهم أن الشعب، حتى الآن على الأقل، هو الذي فرض هذه المفردات والقيم على النظام السياسي، وليس العكس. وهذا هو الطبيعي. الشعب هو المكون الأساسي للدولة، وإنتفاضته تهدف إلى إعادة صياغة مفهوم هذه الدولة إبتداءا من تغيير النظام السياسي. تبدو تونس في هذه اللحظة البلد العربي الذي يريد أن يتحرر من نموذج النظام السياسي الخانق إلى رحابة الدولة. بعبارة أخرى، إذا كان فائض الخوف وفائض القوة هما أبرز العوامل التي تتحكم في الصراع على السلطة في لبنان، فإن فائض السياسة وآلياتها، والعملية السياسية تبدو وكأنها بدأت تستعيد مكانها وأهميتها في تونس.
من الذي يحتل الصدارة في المشهد اللبناني؟ ليس الشعب، وإنما زعماء الطوائف، وتحالفاتهم الخارجية. حتى رئيس الجمهورية يتواجد مع بقية اللبنانيين في أطراف المشهد. وعلى عكس الحالة التونسية، فإن المفردات التي تهيمن على المشهد السياسي في لبنان هي: المقاومة، وسورية، والمحكمة الدولية، والمشروع الأميركي الإسرائيلي، والمؤامرة، والطائفة. وهذا خليط من مفردات ينم من ناحية عن حالة تخبط، وينطوي من ناحية أخرى على معنى واحد، وهو إقصاء الشعب عن اللعبة السياسية. الغريب أن الشعب يعي ذلك، ويدركه تماما، لكنه يدرك أيضا بأنه لا يستطيع أن يفعل إزاءه شيئا. وهذا بسبب تحكم الحالة الطائفية: إنقسام الشعب إلى طوائف، وتداخل طموحات الطائفة (وتحديدا قيادات الطائفة) مع الأدوار الخارجية في الداخل، في إطار نظام سياسي الدولة فيه هي الأضعف من بين كل الأطراف، تصبح أمام حالة سياسية يتداخل فيها التكاذب السياسي، مقابل تضاؤل مساحة الحقيقة، وبالتالي تراجع إمكانية المحاسبة والمسؤلية. في هذه البيئة السياسية تصبح مفردة المؤامرة هي المفردة السياسية التي تبرر كل شيئ، وتفسر كل شيئ. ومما له دلالة هنا ما قاله سياسي لبناني عن سبب إنتفاضة الشعب التونسي. السياسي هو إيلي الفرزلي، ناب الرئيس السابق للبرلمان اللبناني. يقول الفرزلي أن السبب الرئيس لما حدث في تونس أنه إنفجر بعد القمة بين الرئيسين الأميركي أوباما والفرنسي ساركوزي في واشنطن. وأن الإثنين قررا رفع الغطاء عن نظام الرئيس السابق. بعبارة أخرى، إنتفاضة الشعب التونسي هي الأخرى مؤامرة جاءت من الخارج. وهو ما يعبر بشكل دقيق عن الثقافة السياسية المهيمنة في منطقة الشام. الأمر الذي يعزز النظام السياسي بفزاعة الخارج، ويعيق مشروع الدولة.
هناك شيئ آخر يميز تونس عن لبنان، وهو علاقتها مع الجوار. تجاور تونس، وهي دولة صغيرة ومحدودة في مواردها، دول كبيرة وغنية مثل الجزائر وليبيا، ودول كبيرة لكن ليست غنية، هي المغرب. بقيت علاقة تونس مع جوارها العربي في حدود العلاقات الطبيعية بين الدول. عندما إنفجرت إنتفاضة الشعب التونسي، لم يكن من الممكن أن تتدخل أية من دول الجوار العربي في الشأن التونسي تحت أية ذريعة من الذرائع. بقي الجميع يترقب ما يحدث عن بعد. حاولت الجزائر أن تمنع عن نفسها إمتداد العدوى التونسية عن طريق خفض الضرائب على السلع، وخفض الأسعار. إلتزم المغرب الصمت المطبق على ما يحدث. من جانبه لم يكن بإستطاعة الرئيس الليبي، معمر القذافي، إلا أن يعبر عن إختلافه الشديد مع الشعب التونسي في الموقف من الرئيس السابق، بن علي. وقد ذهب القذافي إلى حد القول بأن بن علي كان يجب أن يكون رئيسا لتونس مدى الحياة. كان الزعيم الليبي يخاطب بذلك الشعب الليبي، وليس الشعب التونسي.
على الجانب الآخر، يجاور لبنان كلا من سورية، دولة عربية، وإسرائيل دولة إحتلال متوحشة. لكن ما يستعصي على الفهم أن علاقة لبنان بسورية الشقيقة، ليست بأي شكل من الأشكال علاقة طبيعية، ولا تشبه أية علاقة أخرى بين دولتين متجاورتين، أحداهما شقيقة كبرى، والآخرى شقيقة صغرى. والجانب غير الطبيعي في هذه العلاقة أن الشقيقة الكبرى تعتبر أن إستقرار نظامها السياسي يتطلب بالضرورة هيمنتها على الشقيقة الصغرى. من هنا صار كل شأن في الصراعات السياسية اللبنانية، جل أو دق، يعني السلطة في دمشق. في لبنان حالة طائفية لا تتوقف عن تغذية الصراعات، الدموية أحيانا. وفي دمشق نظام سياسي لا يأمن إلى قاعدته المحلية لتأمين إستقراره وإمساكه بالحكم! كيف يمكن فك الإشتباك بين الإثنين؟ * كاتب وأكاديمي سعودي
|