بقلم فاديا كيوان
إن هذه الإشكالية الحساسة ليست بجديدة وهي تتمحور حول سؤال أكثر دقة وهو هوية لبنان ومبرر وعلة وجوده ككيان وكدولة.
إن معالجة هذه الإشكالية هي في غاية الدقة بالنظر إلى خطرين اثنين يعترضان الحديث حول موضوع مساهمة لبنان الثقافية في العالم العربي. فمن جهة، هناك صعوبة في التمييز بين الثقافة والسياسة وموضوعنا هو المساهمة الثقافية تحديدا مع الإشارة إلى أن الثقافة هي غير السياسة لكنها تلتقي معها من خلال الثقافة السياسية أي مجموعة القيم والنظم الثقافية السائدة والتي تؤسس للسلوكيات الاجتماعية في الحياة العامة. فالرأي السياسي والموقف السياسي والخيارات السياسية كلها مسائل مرتبطة عضويا بالخلفية الذهنية أي الثقافية للفرد كما للجماعة. الحديث في الثقافة هو إذا حديث في أساس أو أسس وخلفيات السياسة.
أما الخطر الثاني فهو التداخل بين الثقافة والإيديولوجية. فالأولى غير الثانية لكنها تشكل حاضنة لإنتاج الإيديولوجيات بحسب الظروف والمعطيات الخاصة بكل زمان ومكان. حديثنا سيبتعد قدر الإمكان عن الإيديولوجية – فهي مجموعات الأحكام القيمية التي يعلن الفرد الإيمان بها والتي ينطلق منها لتوجيه فهمه للواقع ولتحديد مواقفه وخياراته العملية.
فما هي الأوجه الأكثر وضوحا في سمات لبنان الثقافية والتي ترفد الثقافة العربية وتعد قيمة مضافة فيها؟ هناك في نظرنا ست سمات خاصة بلبنان تعتبر في أساس تكوينه وفي أساس عقيدة الدولة الوطنية منذ نشأتها وهي: 1- سمة الإقرار بالتنوع في النسيج الاجتماعي اللبناني، 2- سمة القبول بالاختلاف في الرأي، 3- سمة الانفتاح على العالم بكامله، 4- سمة تقديس الحرية، 5- سمة الاستناد على القانون الوضعي، 6- سمة احترام استقلالية المجتمع المدني.
في ضوء هذه السمات وبفعلها يعتبر الأشقاء العرب أن لبنان يحمل قيمة مضافة في تعاونه معهم وهم يتطلعون إلى تعميق هذا التعاون لكن واجب الصراحة يفرض علينا الإقرار بأن النظرة إلى لبنان مزدوجة. فهي نظرة إيجابية بالنظر إلى السمات الست والتي يعرفها سائر الأشقاء العرب وهي في الوقت نفسه ممزوجة بالمخاوف خاصة لأن تجربة لبنان -على نموذجيتها- ما زالت غير مستقرة وهي تنتقل من أزمة إلى أخرى. وربما كان من المفيد الإشارة إلى أن هناك ميلا أقوى لدى الشعوب العربية للإلتفات إلى لبنان من خلال تلك النظرة الإيجابية وأن هناك ميلا أقوى لدى الأنظمة العربية للنظر بقلق إلى التجربة اللبنانية خاصة بعد الخضات المتلاحقة التي هزت أكثر من مرة وما زالت الكيان اللبناني والدولة اللبنانية على حد سواء.
أما السمات الست فهي تتجلى كالآتي:
1- سمة الإقرار بالتنوع في النسيج الاجتماعي اللبناني. بالفعل فقد تأسس لبنان الكبير على مبدأ الشراكة المسيحية- الإسلامية في تكوين البلد نفسه. وربما كان مفيداً التذكير بلحظة إعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920 حيث كان يحيط بالجنرال غورو كل من بطريرك الموارنة ومفتي المسلمين في ذلك الحين. وبعد سنوات قليلة أقر أول دستور للبنان فتميز بخصوصية المواد 9 و10 و95 منه حيث كفل حرية العائلات الروحية في ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بكل منها وضمن أيضا للاهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية وأقر حرية التعليم وحقوق الطوائف في إنشاء مدارسها الخاصة.
وفي ما بعد، جاء الميثاق الوطني في العام 1943 فجذر مبدأ التوافق في ما بين المسيحيين والمسلمين ووضع أسسا محددة وآليات للتعاون في ما بينهم وكذلك فعل اتفاق الطائف في العام 1989. وتجدر الإشارة إلى أن اتفاق الطائف أكد على العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين وقد دخل هذا المبدأ إلى صلب الدستور اللبناني المعدل وذلك في مقدمته. وتضمن اتفاق الطائف بعدين اثنين : بعد إيجاد توازن وتعاون بين الطوائف وبين السلطات وبعد الانفتاح على تطوير النظام في اتجاه المزيد من الانصهار الوطني وذلك عبر التعديل الذي أدخل على المادة 95 من الدستور شأن آلية إلغاء الطائفية. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن اتفاق الطائف كان واضحا لجهة الدعوة إلى تعزيز أواصر الوحدة بين اللبنانيين وكذلك لجهة ربط إلغاء الطائفية بآليات وطرق كفيلة بتحقيق ذلك.
2- القبول بالاختلاف في الرأي، وهو أيضا يشكل مكونا عضويا للبنان ككيان وكدولة. وفي حين يترجم ذلك عبر الإقرار بتعددية العائلات الروحية في لبنان وحريتها، يترجم ذلك أيضا في الإقرار الدستوري والعملي بالتعددية السياسية التي طبعت الحياة السياسية في لبنان منذ نشأة الدولة الحديثة فيه. فالمناخ الليبرالي الذي نشأ في لبنان شجع على تأسيس أحزاب وتنظيمات متنوعة المشارب والاتجاهات العقائدية. وهذه التعددية ليست فقط تعددية أمر واقع بل هي في الأصل تجلٍ لاحترام الاختلاف واحترام الرأي الآخر. وفي هذا المبدأ ابتعاد كامل عن الأحادية وقبول ولو غير معلن بتداول السلطة. وبطبيعة الحال، يؤدي قبول الاختلاف في الرأي إلى فتح نقاش سياسي واسع وإلى اتساع مروحة الخيارات أمام المواطنين واتساع مواز في هامش حريتهم.
3- الانفتاح على العالم بكامله وهو السمة الثالثة للثقافة اللبنانية التي كانت دائما ملتقى ثقافات عدة وجسرا في ما بينها جميعا. وفي حين كانت هناك أسباب عدة لإرادة المسيحيين في الانفتاح على الغرب لكن النتيجة كانت توسيع مكتسبات جميع اللبنانيين الثقافية وانطلاقهم جميعا من هذه الخاصية إلى الانفتاح على العالم العربي وهم جزء منه لكنهم جزء يحمل إليه جديدا من خارجه. ولا يجوز أبدا النظر إلى مسألة التنوع الثقافي واللغوي في لبنان على أنها ازدواجية أو ثنائية قد تعكس تصدعا في وحدة لبنان بل أنها فرصة للتفاعل بين ثقافات الشرق والغرب مع عناصر الثقافة العربية والثقافة الإسلامية. والتفاعل بحد ذاته عملية ديناميكية منتجة ومبدعة بدورها لثقافة خاصة تختلف عن كل مكوناتها وتحتضن هذه المكونات جميعها في صيغة ثقافية غنية وجديدة.
4- تقديس الحرية وغالبا ما يجري التغني بهذا المبدأ فهو ركن أساسي من أركان تركيبة لبنان أيضا. وقد تكرست الحريات العامة في الدستور اللبناني ونمت وتطورت الصحافة والمؤسسات الإعلامية السمعية البصرية وكذلك الإنتاج الأدبي والفني في مناخ من الأمان لم تعكره سوى استثناءات معدودات وهي أكدت بدورها على مشروعية الحرية وأنتجت المزيد من التشبث بها. لكن مفهوم الحرية الذي تبلور في لبنان اتجه بصورة خاصة إلى تكريس حرية الجماعة فيما بقي فاتراً في ما خص حرية المواطن الفرد. واليوم يتصاعد اتجاه ثقافي أكثر قوة يدفع في اتجاه توسيع دائرة مفهوم الحرية ليشمل حرية المواطن الفرد في كل المجالات وفي ظل قانون عادل مبني على حقوق الإنسان. وفتح كذلك النقاش حول المسؤولية التي لا بد أن تترافق والحرية في ما يتعلق بعمل وسائل الإعلام على وجه الخصوص.
5- الاستناد إلى القانون الوضعي وقد طبع عقيدة الدولة منذ تأسيس لبنان الكبير وشجع على نمو مدارس الحقوق في لبنان، وعلى انفتاح واسع على الأنظمة الحقوقية في العالم، وأسس لنشأة فكرة القضاء المستقل وفكرة حقوق الإنسان في كنف دولة مؤسسات يحكمها القانون. لكن من المؤسف اضطرارنا إلى القول أن القانون الوضعي لم يتطور بالسرعة اللازمة ليلتقي مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومع الاتفاقيات الدولية العديدة ذات الصلة والتي التزم الدستور اللبناني المعدل بالتقيد بها. وبالتالي فإن الثقافة الحقوقية منتشرة بصورة خاصة بين المواطنين وهي ليست محترمة بالقدر الكافي من قبل الدولة. وهناك تطلع نحو المزيد من الضغط على الدولة من قبل قوى المجتمع المدني وبخاصة من قبل النخب المتنورة بين المثقفين وذلك بهدف توسيع دائرة الإقرار الفعلي بكل جوانب حقوق الإنسان. لكن لبنان يبقى متميزا في مجال تجذر ثقافة حقوق الإنسان وانتشارها بين مواطنيه وفي هذا المجال تتجه الثقافة اللبنانية نحو العالم العربي بفكر عقلاني منفتح، مؤمن بالحرية وبالحق وهي تسعى للتفاعل مع الثقافات العربية المحلية الأخرى وتسعى للتأثير فيها.
6- احترام استقلالية المجتمع المدني وقد تكرست باعتماد لبنان على صيغة الحرية الكاملة لمؤسسات المجتمع المدني في التأسيس بدون ترخيص مسبق ولكن مع واجب العلم والخبر للدولة. اليوم، لبنان هو الدولة العربية الوحيدة حيث لا يحتاج مؤسسو منظمة غير حكومية إلى ترخيص مسبق. وبصورة عامة يتميز لبنان بحيوية مجتمعه المدني وذلك من خلال عمل نقابات عمالية عريقة وجمعيات أصحاب عمل ونقابات مهنية فاعلة جدا وجمعيات غير حكومية نشيطة جدا وروافد حركة طالبية عريقة كان لها دور ريادي في طرح قضايا الإصلاح والإنماء في مختلف المجالات. إن قوة وحيوية المجتمع المدني كانت السبيل إلى المحافظة على تماسك المجتمع اللبناني حتى في فترة غياب الدولة وهي التي كانت أيضا الضمان لعدم زوال لبنان حتى عندما شلت المؤسسات الحكومية وأحتلت الأرض وفرغت السلطات. بقي لبنان صامدا بشعبه ومتشبثا بالحياة بالرغم من الانقسامات التي مزقته.
تطل الثقافة اللبنانية على العالم العربي من خلال هذه السمات النموذجية الست التي يعيشها لبنان وقد تبلورت تدريجا في إطار المؤسسات اللبنانية على اختلافها وعلى اختلاف النسيج الاجتماعي والطائفي والمناطقي.
بهذه الخصوصيات يطل لبنان على العالم العربي فيحمل قوة دفع خاصة تساهم في تطوير الاتجاهات نفسها في المجتمعات العربية الأخرى. وهذه السمات موجودة في كل مجتمع عربي لكنها ليست هي الأقوى بل أنها تسعى إلى التجذر وهي تتشجع بالنموذج اللبناني. لكن هذا الكلام لا يعني أن هذه الخصوصيات للثقافة اللبنانية هي دائما بخير في لبنان بل أن بعضها يتعرض لانتكاسات متتالية وهو يستوجب العناية والحماية وكذلك إن الخصوصيات المذكورة هي سلاح ذو حدين إذا جاز التعبير. فقد تتحول إلى أخطار تهدد لبنان، كيانا ودولة. فحذار من التنوع الاجتماعي الذي يولد التعددية المتطرفة التي تهدد بإلغاء الآخر. وحذار الاختلاف بالرأي إذا ما تحول إلى حجة لشل عمل المؤسسات وتغييب الدولة أو إضعافها. وحذار الانفتاح على العالم إذا ما تحول إلى تبعية للخارج وحذار الحرية إذا ما تفلتت من المسؤولية الوطنية الملازمة لها وحذار القانون إذا كان جامدا وغير مبني على حقوق الإنسان وحذار استقلالية المجتمع المدني إذا ما تحولت إلى تمرد وعصيان على الحق وعلى مصلحة لبنان العليا.
إن الثقافة اللبنانية نفسها هي في حالة صيرورة دائمة وتطور مستمر بفعل الظروف والمعطيات التي تمر على لبنان وعلى اللبنانيين وهي تصقل تدريجيا أركانها أو سماتها الست التي ذكرنا في سياق هذا النص. لكنها تموت فيما لو لم تتفاعل مع المحيط العربي الواسع للبنان والذي يشكل الرئة التي يتنفس لبنان منها. والثقافة اللبنانية تتفاعل مع الثقافات العربية المحلية الأخرى وتتبادل معها التأثير. ونحن نأمل أن يكون لهذه السمات الست الثبات في التجربة اللبنانية بهدف زيادة فاعليتها في التفاعل مع الثقافات العربية المحلية الأخرى وزيادة التأثير عليها فيتسع معها دور لبنان الثقافي في العالم العربي ويزيد تأثير الثقافة اللبنانية في محيطها فيقوى في لبنان كما في سائر المجتمعات العربية الأخرى، عصب البديل الراقي والمتنور وهو مشروع بناء دولة الحق، ويتألق النموذج اللبناني متحديا مقولة صراع الحضارات والثقافات والنزعات العنصرية المنتشرة في محيطه فتكون التجربة اللبنانية عصارة تلاقي الثقافات على اختلافها وخميرة لعالم يسوده الإيمان بحقوق الإنسان وبالتنوع وبالحرية كمصادر غنى للبشرية وأسسا متينة للسلام.
(استاذة جامعية)
|